من غير الوارد في استراتيجيتهم إطلاق إضرابات واسعة تساعد على تنظيم الطبقات الشعبية كمركز ثقل للبديل المطلوب، بحجة الحفاظ على وحدة الحراك. ويأتي رفضهم محاكمة عدد من كبار المسؤولين السياسيين وأرباب العمل، بعد تدخل قيادة الجيش في الأزمة، ليزيد من التساؤلات عن الدوافع الحقيقية لهذه المعارضة المطالِبة «بتحرير القضاء وولادة جمهورية ثانية». هذه الولادة مشروطة ــ برأيهم ــ بتعيين هيئة تضمّ النجوم الإعلاميين للمعارضة على رأس السلطة لإدارة مرحلة انتقالية محتملة. وبسبب الرفض القاطع لدى الجيش لأي بديل خارج الإطار الدستوري، يبدو أن الأزمة مرشّحة للاستمرار لمدة زمنية طويلة، ما يضاعف شكوك المراقبين في قدرات الحراك التغييرية.
في الواقع، المزاج الاجتماعي المؤيد للتغيير لا يتيح وحده حلّ إشكالية الانقسامات الأيديولوجية. كان من الواضح أن الحركة الشعبية منذ انطلاقتها قد جرى تأطيرها من قِبَل الديمقراطيين الحداثيين، المنسجمين مع التوجّهات الليبرالية لجناح من البورجوازية، سعى من خلال أدواته ووسائل إعلامه إلى السيطرة عليها من فوق. لكن الكتلة الأوسع بين الجماهير المُفْقرة ليست لديها التطلعات نفسها، وتركز أولاً على مطالب اجتماعية كمسألة بطالة حَمَلة الشهادات الشباب، وتراجع الصناعة (الجزائر أصبحت حالياً البلد الأقل تصنيعاً في المغرب العربي)، والتضخم، وركود الأجور في القطاع العام منذ عام 2012، والارتفاع الكبير في أسعار الوقود والكهرباء، وأزمة السكن. وقد تفاقمت الأزمة الاجتماعية مع سياسة التقشف المتبعة من قِبَل الحكومة، التي خفّضت استثماراتها، المحرك الرئيس للاقتصاد، بعد تراجع أسعار النفط. من جهة أخرى، فإن الاستشراء الكبير للفساد، وكذلك عدة فضائح كُشِفَت للرأي العام من دون أن تليَها ملاحقات قضائية بحق المتورطين فيها، أسهمت في تغذية الاحتقان في أوساط الرأي العام.
التحالف بين الإسلاميين والحداثيين يبقى صلباً ما دام شعار إسقاط النظام متقدماً
تشهد الساحة الجزائرية، في السياق نفسه، تقاطعاً ظرفياً في الأهداف، بين قوى إسلامية مرتبطة بالمحور التركي ــــ القطري، وخصومها الأيديولوجيين الحداثيين من ذوي الميول البربرية. الأولوية لدى الطرفين، بناء جبهة مشتركة لإزاحة الحكومة الحالية. شكّل تشييع عباسي مدني، المجاهد السابق في حرب التحرير ومؤسس «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، الذي ثَبتت مسؤوليته عن أحداث العشرية السوداء، مناسبة لأهم استعراض للقوة من قِبَلهما في الشارع. تتولى قناة «المغاربية»، المملوكة من ابن عباسي مدني، وكذلك محمد العربي زيتوت، وهو عضو شبكة من الناشطين الإسلاميين الجزائريين في أوروبا، بينهم أيضاً مراد دهينة العضو السابق في «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، التعبير إعلامياً عن مواقف هذا التيار. تميّز زيتوت عند انطلاق الحراك بدعوته المتظاهرين إلى إحراق أعلام الصين وروسيا، وبحملته العنيفة على الإمارات المتهمة بنظره بدعم قيادة الجيش الجزائري، وهي تهمة أثارة لعدم دقتها انتقادات كثيرة له.
التحالف بين الإسلاميين والحداثيين من ذوي الميول البربرية يبقى صلباً في الظرف الراهن، ما دام شعار إسقاط النظام يتقدم غيره من شعارات المتظاهرين. آخر مناسبة للتعبير عن هذه الصلابة، الإشادة المتدفقة بمناقب عباسي مدني بعد وفاته من قِبَل مصطفى بوشاشي. يحاول الطرفان السيطرة على قيادة الحراك، وفرض خريطة طريق خاصة بهما عليه. هذا التقاطع ليس جديداً؛ فـ«جبهة القوى الاشتراكية»، العضو في الأممية الاشتراكية، كانت تدافع عن «الجبهة الإسلامية للإنقاذ»، وتحاول توفير دعم لها من الأحزاب الاشتراكية ــــ الديمقراطية الأوروبية خلال تسعينيات القرن الماضي.
التناقض الأيديولوجي بين هذين الفريقين ثانوي. أما ذلك المرشح للبروز في الفترة المقبلة، فهو التناقض الطبقي بين غالبية المتظاهرين وممثليهم المفترضين. تنتمي هذه الغالبية إلى الطبقات الشعبية التي أثار غضبَها تفاقمُ المظالم. الشعور الوطني المعادي للإمبريالية، الموروث الأهمّ لحرب التحرير، ما زال طاغياً في أوساطها، وهي تطالب بقطيعة جذرية مع الوضع القائم، لا أن «يحلّ الحاج موسى في مكان موسى الحاج» كما يقول المثل الشعبي المعروف. كشفت المواقف المتباينة حيال اعتقال إيسعد ربراب، الذي لقي ترحيباً في الشارع واستنكاراً من قِبَل الذين نصّبوا أنفسهم ممثلين للحراك، عن بداية ظهور انقسامات في هذا الأخير، حتى لو أخذت حتى الآن شكل سجال عقيم حول الهوية والنزعات الجَهَوية. بعض الأصوات، كرئيس «التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية»، سعيد سعدي، صاحب التوجه البربري والمؤيد للفدرالية، والمحامي مكران آيت لعربي، وصفا اعتقال رجل الأعمال الفاحش الثراء بأنه محاولة لتقسيم الحراك الشعبي. عدد من مقاولي الهوية ركّزوا على الأصول القبائلية لربراب في مسعى لإثارة تضامن جَهَوي معه.
لقد بدأ الحراك في الجزائر في مرحلة تتسم بالضعف الشديد بالنسبة إلى القوى المدافعة تقليدياً عن مصالح الطبقات الشعبية، أحزاباً ونقابات، في مواجهة محدلة السلطة في العقدين الماضيين والهجمة الليبرالية الهادفة إلى إعادة النظر في جميع المكتسبات الاجتماعية التي تحقّقت بعد حرب التحرير. وعلى الرغم من غياب ميزان قوى مناسب، ومنظمات نقابية ذات تمثيل وطني، فإن الفئات الشعبية استطاعت بوعيها العفوي أن تفرض على مختلف اللاعبين السياسيين وجود خطوط حمراء خاصة بإدارة شؤون البلاد، من سياسات إعادة توزيع الثروة، إلى رفض أي تدخل أجنبي في الأوضاع الداخلية. إلا أنه يبقى من غير المعروف مدى قدرة الطبقات الشعبية على الاستفادة من مناخ الانفتاح النسبي، السائد في الأسابيع الأخيرة بفضل النضالات، لتنظيم صفوفها وفرض خريطة طريق منسجمة مع تطلّعاتها.