«الحل الواقعي» تبدأ اليوم، رسمياً، في المنامة، فعاليات الدفع به، عبر تدشين الشق الاقتصادي من «صفقة القرن» الأميركية، التي هي النتيجة الطبيعية لـ«الشراكة» الإسرائيلية ـــ العربية، وتعبير عاكس لمتانتها، وإن على حساب القضية الفلسطينية نفسها. في الخلفية، من المفيد الإشارة إلى أن رؤيتين تجاذبتا إسرائيل تاريخياً في شأن حلّ القضية الفلسطينية، بما يتوافق ومصالح الكيان وإمكاناته. الأولى تشدد على مفهوم «التنازل» عن جزء من الأراضي المحتلة للفلسطينيين، بما يوفر لإسرائيل لاحقاً شرعية إقليمية ودولية تسهّل انضمامها إلى محيطها وترسخ وجودها، مقابل رؤية أخرى تتطلع إلى عدم التنازل عن الأرض مع تعميق الاستيطان فيها، على أن يصار إلى إيجاد حل ما للوجود الفلسطيني عبر حكم ذاتي، «تُطلق عليه تسمية الإمبراطورية الفلسطينية، لا الدولة الفلسطينية فقط»، كما كان ينقل عن أرئيل شارون آنذاك.
الاحتلال تلقى الهدية التي وفرها العرب له، ولن يتباخل على نفسه برفضها
هذا التنازع حسم مآله المتغير الإقليمي، و«اندفاع» الدول العربية «المعتدلة» نحو إسرائيل، فكانت النتيجة بروز تيار يجلّي أقصى التطرف: الإبقاء على القدر الأكبر من الأراضي المحتلة تحت السيادة الإسرائيلية. وهي الرؤية التي سادت لدى اليمين الإسرائيلي، وأدار الأخير من خلالها المفاوضات مع الجانب الفلسطيني من دون التوصل إلى نتائج. ومع تزايد تراكض الدول العربية باتجاه إسرائيل في السنوات القليلة الماضية، ووجود إدارة أميركية تنافس اليمين الإسرائيلي على تصفية القضية، توجهت الحسابات الإسرائيلية نحو رؤية كانت خيالية في السابق، ويتبنّاها نتنياهو، وتنص على الآتي: حلّ القضية الفلسطينية لا يأتي بالمفاوضات مع السلطة، بل بالتطبيع مع «الاعتدال العربي» الذي يفتح يدوره الطريق أمام الحل مع الفلسطينيين. بمعنى آخر: قلب المعادلة التاريخية التي بُني عليها منطق التسوية، فبدلاً من أن يكون الحل مع الفلسطينيين مدخلاً للتطبيع مع العرب، يكون التطبيع مع العرب مدخلاً للحل. لكن أي حل فلسطيني؟ هذا ما يسعى إليه العدو حالياً، إلى جانب الأميركيين، وبمعونة العرب في المنامة.
بالطبع، عملت إسرائيل على «تسليك» هذا الواقع تباعاً، عبر دفع الدول الخليجية إلى تظهير التطبيع، في موازاة النفخ في نار الفتنة مع الجانب الإيراني، لإيجاد عداوة بديلة تدفع الأنظمة العربية إلى التراخي إزاء الشروط الشكلية التي كانت تمنع الدخول في التطبيع الكامل، فكان لها ما أرادت: باتت القضية الفلسطينية في أدنى سلم اهتمامات هذه الأنظمة، في موازاة تحول مقاومة الاحتلال إلى جريمة تستدعي الملاحقة بتهمة «العمالة لإيران» التي تحمل راية المقاومة، في حين أن التعامل مع الاحتلال والتنظير للتطبيع معه حسنة تضع الداعي إليها في خانة الاعتدال والتوافق مع مصالح الأنظمة وحكامها.
على هذه الخلفية، بات التطبيع واقعاً قائماً لا ينكره معظم حكام الخليج، وإن كان الخلاف لا يزال قائماً نسبياً على ضرورة تظهيره بالكامل كما ترى إسرائيل، أو تأجيل التظهير إلى أجلٍ ما كما يرى الحكام الخليجيون. وهو ما يفسر طفرة التقارير العبرية التي تتحدث عن العلاقات بين الجانبين، فيما شبه الصمت قائم لدى الحكام العرب، مع كثير من الاستثناءات بطبيعة الحال، التي بدأت تتزايد على نحو واسع في الآونة الأخيرة، إلى الحدّ الذي يشير إلى أن الخلاف على تظهير التطبيع من عدمه بدأ بالتلاشي. لذلك، تراجع استحضار أنباء الزيارات المتبادلة والاتفاقات من تحت الطاولة ومن فوقها، كما صور المصافحة والعناق والقبلات، لتأكيد وجود العلاقات، التي لم تعد محلاً للمجادلة، بل في الأساس لم تعد محلاً للنكران، حتى في الشكل، لدى الجانبين.
«صفقة القرن»، التي تبدأ فعالياتها الاقتصادية اليوم في المنامة، ما كانت لتكون، أو ليُتخيّل أن تكون في أذهان أيّ من منظري الصهيونية! نعم، كانت محلّ تنظير لدى أولئك الذين قبلوا بفكرة التفاوض على نية التملص من التسوية لاحقاً. لكن أن تصل هذه الرؤية فعلاً إلى مستوى التطبيق العملي، فقد كان ذلك مجرد خيال بحت. الفضل في ولادته يعود إلى الحكام العرب أنفسهم، لا إلى «شطارة» إسرائيلية. الاحتلال تلقى من جهته الهدية التي وفرتها الأنظمة له، وهو لن يتباخل على نفسه برفضها. تصفية القضية الفلسطينية، التي كان يتخيلها الصهاينة سابقاً في الأحلام، باتت مسعى عربياً أولاً، ومحل قبول إسرائيلي ثانياً، وعلى هذا المبنى، يجب أن تُحدّد التموضعات.