في كلا الأزمتين، كان الرئيس الراحل حافظ الأسد حاضراً، رغم تباين الظروف السياسية المحيطة بالبلاد، والأسباب الكامنة خلف كل أزمة. ففي المرّة الأولى، تدخّل الأسد الأب بعد تسلّمه الحكم عام 1970، حين فرض الشأن الاقتصادي نفسه على أولويات الرئيس الجديد، الذي أعطى الضوء لإطلاق انفتاح اقتصادي، تجلّت ملامحه في تخفيف العراقيل على التجارة الخارجية، وتقديم تسهيلات استثمارية، وبناء مؤسسات الدولة، وتخفيض أسعار الكثير من السلع والمواد، إضافة إلى رفع المخصّصات العائلية، وغيرها من الإجراءات. ووفق ما يذكر الكاتب كمال ديب، في كتابه الصادر عن «دار النهار» في بيروت (تاريخ سورية المعاصر)، فقد وجّه حافظ الأسد «نداء لشخصيات عامة للعودة إلى سوريا والمساهمة في عملية البناء». ويضيف ديب أن عقد السبعينيات كان «فترة نهوض ودخول رساميل واستثمارات ممتازة في قطاعات الزراعة والصناعة والبنية التحتية والصحة والتربية، اعترتها بعض الصعوبات والأخطاء، إلا أنها كانت بشكل عام إيجابية ناجحة» مقارنة بالمرحلة السابقة التي أضرّت إجراءاتها بالطبقتين الوسطى والبرجوازية.
تلقى المسؤولية، داخلياً، على شبكات الفساد الواسعة والمتغلغلة
وفي المرة الثانية، تدخّل أيضاً الأسد الأب ليطلق استراتيجية الاعتماد على الذات لمواجهة الحصار الاقتصادي الغربي، وتخفيف معاناة المواطنين في الحصول على احتياجاتهم الأساسية، وتكليف حكومة جديدة تضم كفاءات وطنية بالعمل على تنفيذ الاستراتيجية المذكورة وتحقيق انفتاح اقتصادي جديد لتشجيع الاستثمار المشترك بين القطاعين العام والخاص، مقابل إجراءات صارمة تمنع التعامل بالعملات الأجنبية. وهذا ما حصدت البلاد ثماره من خلال زيادة ملحوظة في الإنتاج الزراعي، والانفتاح الاستثماري التدريجي في قطاعات الصناعة والسياحة وغيرها. ووفق ما يشرح حزوري، فإن الاستراتيجية الاقتصادية آنذاك قامت على ركيزة أساسية محورها أن «الاقتصاد الحقيقي يتمثل في تنشيط قطاعي الزراعة والصناعة، مع التركيز على القطاع الزراعي بشقّيه النباتي والحيواني. وبناءً عليه، تم إيقاف الاستيراد بشكل شبه كامل لجميع السلع غير الضرورية والكمالية، باستثناء المواد الغذائية الأساسية، وقد ترافق ذلك مع صدور المرسوم التشريعي الرقم 10 لعام 1986، الخاص بالقطاع الزراعي، والذي سمح بإحداث شركات القطاع الزراعي المشترك، حيث أنيطت بهذه الشركات مهمّات استصلاح الأراضي الزراعية، والإسهام في تربية الثروة الحيوانية. وسمح بمقتضى أحكام هذا المرسوم بإنشاء مشروعات زراعية مشتركة بمساهمة حكومية. واقتصرت مساهمة الدولة على تقديم الأراضي الصالحة للزراعة، وتقويم أسعارها على نحو منخفض. ونتيجة ذلك، وخلال سنوات معدودة، تم الانتقال من اقتصاد الندرة في المجال الزراعي إلى اقتصاد الوفرة، وتم تحقيق الأمن الغذائي للسلع الأساسية والاستراتيجية من خلال فائض الانتاج الزراعي». ويضيف حزوري لـ«الأخبار»: «الوفرة في الانتاج الزراعي ترافقت مع دعم القطاع الصناعي الخاص للتوجّه نحو تصنيع الفائض من المحاصيل الزراعية، ولا سيما في مجال الصناعات الغذائية وصناعة الغزل والنسيج التي تعتمد على القطن السوري، والذي يلقّب بالذهب الأبيض».
ومع أن العام 2005 حمل معه مخاوف حقيقية من إمكانية تعرّض البلاد لضائقة اقتصادية على خلفية التهديدات الغربية بفرض عقوبات اقتصادية على دمشق، بحجّة ضلوعها في عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، إلا أن التعاون السوري مع بعثات التحقيق الدولية ومعارضة بعض الدول الإقليمية والدولية، حالا دون اعتماد مشروع كهذا من قبل مجلس الأمن الدولي.
اليوم، تشهد سوريا أزمة اقتصادية خانقة، سبّبتها عدة عوامل داخلية وخارجية، أبرزها احتلال القوات الأميركية حقول النفط والغاز، إضافة إلى العقوبات الغربية المفروضة على البلاد منذ بداية الأزمة، وزادت حدتها منذ بداية العام 2019، وهو ما تسبّب في ارتفاع معدّلات التضخم إلى مستويات كبيرة. حيث تشير التقديرات إلى أن أسعار السلع والمواد زادت، منذ بداية العام الحالي لغاية تاريخه، بمعدل 48 ضعفاً، مقارنة بأسعار العام 2010، وبحوالى 3 أضعاف من بداية العام. أمّا داخلياً، فإن المسؤولية تُلقى على شبكات الفساد الواسعة والمتغلغلة في مؤسسات الدولة والمجتمع، والتي تتاجر بلقمة عيش المواطن وتنهب ثروات البلاد ومقدّراتها وتضارب على سعر صرف الليرة، الأمر الذي أدّى إلى تعمّق ظاهرة الفقر المنتشر بين السوريين، وبشكل ينذر بمشكلة اجتماعية واقتصادية كبيرة. ومع ذلك، فإن الأمل لا يزال قائماً بقدرة البلاد على تجاوز الأوضاع الحالية والتغلّب على العقوبات المتجدّدة، كما تجاوزت أزمات الماضي، فكما أن هناك نقاط ضعف تصنّف على أنها أشد سوءاً من السابق، فإن نقاط القوّة تبدو أكثر حضوراً وتأثيراً فيما لو استثمرت بشكل صحيح.