تدنّي نسبة الاقتراع يعني حُكماً إعادة القوى السياسية نفسها إلى المجلس، ولو بشرعية أقلّ
المشكلة أن العراقيين يشعرون باستحالة التغيير عبر الانتخابات، في بلد تُستخدم ثرواته الهائلة في شراء الولاءات، لا في التنمية، وتُنفَق إضافة إليها أموال طائلة من الخارج بهدف التأثير في الوجهة التي سيسلكها البلد بعد رحيل الاحتلال، خصوصاً أن الأخير سيترك فراغاً أمنياً وسياسياً ما، يَتعيّن سدّه. وهذا يثير تنافساً بين قوى إقليمية تخوض نزاعات غير مباشرة بين بعضها البعض، تستدعي منها تعميق تدخّلها في العراق، وخاصة على الساحة «السُنّية»، حيث تتصارع علناً، الإمارات والسعودية من جهة، وتركيا وقطر من جهة أخرى، على إيصال حلفائها إلى مجلس النواب، وهو ما يمثّل نذير شؤم، على اعتبار أن الأطراف المذكورة كلّها متورّطة في اللعبة الدموية في هذا البلد من بوّابات الإرهاب والتوغّلات العسكرية والتحريض الإعلامي.
في خضمّ ذلك، يجري الحديث عن مقاطعة للانتخابات من قِبَل قوى جديدة، مِن مِثل بعض «مجموعات تشرين»، أو قديمة كجماعتَي إياد علاوي وصالح المطلك. والمقاطعة إنّما هي تعبير صريح عن فشل «قوى تشرين» في تشكيل بديل أو شريك للقوى السياسية، أو حتى تكوين إطار ساعٍ للتغيير، واعدٍ بالنسبة إلى العراقيين، وهو ما يُردّ إلى أن هذه القوى نفسها مشتّتة ومتشرذمة، بتشتّت أهواء مكوّناتها وارتباطاتهم الخارجية والداخلية، فيما تُقرّ القوى القديمة التي لجأت إلى هذا الخيار بعجزها عن التغيير. لكن المقاطعة الحقيقية يُرجّح أن تكون مِن النسبة الأكبر من الشعب، الذي ما زال لا يشعر بأن التغيير يمرّ عبر صناديق الاقتراع، لأنه لا يجد بين القوى السياسية، الجديدة والقديمة على السواء، من يلبّي طموحه، ويستجيب لمطالبه. على أيّ حال، فصّلت القوى السياسية قانون الانتخابات على قياسها، وبالتحديد القوى التي تهيمن على الحكومة حالياً. وإذا كان رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي، ليست لديه لائحة مرشّحين، فالمتوقّع أن يساعده التفتيت في العودة إلى رئاسة الوزراء، لصعوبة الاتفاق على مرشّح آخر، وكونه أنشأ صلات مع الكثير من القوى المحلية والإقليمية، بما فيها إيران والسعودية اللتان تستضيف بغداد حوارات متواصلة بينهما برعايته. والكاظمي أوّل شخص يخوض تجربة السعي للعودة إلى رئاسة الوزراء من خارج البرلمان، بعدما درجت العادة على أن يكون رئيس الوزراء هو رئيس أكبر كتلة برلمانية أو ثاني أكبر كتلة على أقلّ تقدير، لكن سقوط عادل عبد المهدي في الشارع في تشرين 2019 كسر هذه القاعدة.
ستستفيد بعض القوى القديمة المترسّخ وجودها، والتي تملك إمكانات مالية وماكينات انتخابية كبيرة، من غياب أيّ ديناميكية للتغيير الذي ينشده جميع العراقيين. وفي ظلّ هذا الغياب، سيكون حضور الرقابة الدولية مجرّد شاهد على إعادة القوى السياسية إنتاج نفسها، بغير الاضطرار لارتكاب المخالفات الانتخابية، إلّا حيث ينافس بعضها بعضاً، وهو ما يُرجّح أن تشهده هذه الانتخابات، من دون أن يكون له تأثير حاسم في نتيجتها. وسيؤدي القانون الجديد إلى ظهور قوى جديدة، إلّا أن الأغلب اندراجها ضمن فئتَي النواب المستقلّين أو المنتمين إلى العشائر التي ستتمكّن من إيصال عدد من أبنائها إلى الندوة البرلمانية. كما أن القانون سهّل على المموّلين الخارجيين والقوى السياسية المحلية ذات الإمكانيات العالية، استخدام تلك الإمكانيات بكفاءة أكبر. لو كان العراق بلداً فقيراً، لأمكن القول إن ما يجري فيه اليوم يتناسب مع موقعه الجغرافي وانتمائه إلى العالم النامي، إلّا أن بلداً ينتج 4.5 ملايين برميل نفط يومياً، حالياً، ويُتوقّع أن تصبح 8 ملايين بحلول عام 2027، بفضل الاستثمار في الإنتاج، يجدر به أن يكون من بين الدول الغنية مثل جيرانه في الخليج، وأن يفوقهم لكونه أكثر انفتاحاً وذا مجتمع أقلّ اعتماداً على النفط.