مع صعود خطاب حل الدولتين وخطاب المجتمع الدولي على حساب خطاب الثورة الفلسطينية، تم العمل على استبدال المؤسسات الوطنية بمؤسسات تابعة تتبنّى ذلك الخطاب، وحتى محاصرة ما تبقّى من مؤسسات وطنية والتضييق عليها لفرض ذلك الخطاب، خاصة أنه مموّل من شبكات الاتحاد الأوروبي. كنتيجة لذلك، أفرز ذلك المسار خطاباً شبيهاً للبعض من المثقفين الذين يدّعون جذرية في محاربة وجود الكيان الصهيوني تارة، ويحملون الخطاب ذاته لمكاسبهم الشخصية تارة، لنصل إلى فكرة مفصلية وهي العلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة الثورية في طبقات المثقفين، ففي حين يحمل هؤلاء نظريات تحرر ثورية لا نجدهم يمارسونها في مساحات العمل ولا تأخذ جذريتهم المفترضة حيز التنفيذ عندما تمر المبادئ بمنافعهم الذاتية، وهو ما نلمسه في موضوع التطبيع الثقافي أخيراً.
مع صعود خطاب حل الدولتين وخطاب المجتمع الدولي على حساب خطاب الثورة الفلسطينية، تم العمل على استبدال المؤسسات الوطنية بمؤسسات تابعة تتبنّى ذلك الخطاب
إنّ كل التناقضات التي جاءت نتيجة للاحتلال والصراعات الطبقية المركّبة والمتداخلة مع قضايا أخرى نعاني منها مباشرة بسبب الاحتلال وبسبب الهيمنة الثقافية العالمية بشكل عام، مكّنت طبقة معينة من المثقفين من الاستحواذ على الفضاء الثقافي فأعادت إنتاج مساحات ثقافية ليبرالية تحمل خطاباً ثورياً مفرغ المضمون، ويحمل خطابهم أسلوب التطرف في فرض قناعاتهم ومبادئهم يسمح لهم بتطبيع التطبيع ذاته، لأنهم ما إن جادلتهم في أي قضية حتى تنهال عليك كل التهم فتتحول القضية إلى قضية جماعة تسعى إلى حماية مكاسبها وامتيازاتها الطبقية بكل وضوح. لأن الضبابية في المعايير تظهر في كل مرة عندما يكون المثقف أمام خيار تحقيق مكسب ذاتي لنفسه أو حتى لدوائره الاجتماعية والثقافية، حينها يصبح مفهوم التطبيع الثقافي رمادياً يحمل التساهل في بعض الأمور على حساب الطبقات الأخرى التي تحاول التحرر من التبعية بكل أشكالها، بينما يبقى المثقف الليبرالي ومكاسبه الآنية تحت سطوة التبعية الثقافية التي تنتج أكاديميا ثورية مفرغة المعنى. فتتحول الممارسة الثورية في أقصاها إلى التلويح بعلم فلسطين أو الغناء لفلسطين بعد الخضوع للأمر الواقع الذي يسعى الاحتلال لفرضه، في مشهد أشبه بالاحتفالات الفولكلورية بثقافة وأزياء قبائل الهنود الحمر في أميركا وكندا ونيوزيلندا بعد أن حلّت عليهم الإبادة وأمسوا تحت السلطة الكاملة للمجتمع الاستيطاني الأبيض، فكيف لك كمثقف أن تحمل خطاب الحرية والتحرر وأنت تضيّق القيد على شعب بأكمله؟
لأشقائنا العرب ممن يؤمنون بفكرة أن الزيارة للسجين لا للسجان، فإنّ زيارتكم تزيد من حصار السجين، فما إن تدخل الحدود التي سيطر عليها السجان وكبّلنا داخلها حتى ترضى بالأمر الواقع الذي فرضه علينا. وحين تدخل الأراضي المحتلة وتمشي في شوارعها وخلال محاولات سيطرة وسيادة السجان، تصبح أنت في خندق السجان لا السجين. وإن كنت تخشى أن يموت السجين في سجنه فلنذكّرك بأن الشهادة على أرض فلسطين هي الضمان الوحيد لفكّ حصارنا وعزلتنا عن محيطنا العربي. سترحب بكم فلسطين المحررة، ولكن حتى ذلك اليوم، حاصروا السجان ولا تتصالحوا مع وجوده ولا تدخلوا الأراضي المحتلة بما يرضي المحتل ولا يرضينا.