ورغم كلّ ما تقدّم، والذي استهدف كيّ الوعي للفلسطينيين، إلا أن رحم فلسطين لم يكُن يوماً عاقراً، بل أنجب طوال الأعوام الماضية مقاتلين ومقاومين، يشعلون جذوة الصراع ويبقون فلسطين البوصلة، بدليل ما تعيشه فلسطين اليوم من حالة مقاومة متصاعدة تشكّل الأمل الوحيد والبديل من مسار «أوسلو» والتنسيق الأمني. لا بل أصبح هذا الخيار رغم إمكاناته الضئيلة يشكّل تحدياً للسلطة التي تنظر إليه بوصفه تهديداً لمستقبلها ووجودها، فيما ترى فيه إسرائيل فشلاً لكل منظومتها وسياساتها، التي عجزت عن قتل المقاومة في نفوس الفلسطينيين. اليوم، بعد 30 عاماً على الاتفاق المشؤوم، ينفذ مقاوم فدائي عملية إطلاق نار قرب بلدة بيتا يصيب فيها مستوطنين بجروح وينسحب من المكان، وتنجح المقاومة في قتل 36 جندياً ومستوطناً في 9 شهور، وتراكم «كتيبة جنين» قوتها وعبواتها الناسفة في أزقة المخيم استعداداً للمواجهة المقبلة. وكذلك الحال في مخيمَي عقبة جبر جنوب غرب مدينة أريحا، ونور شمس في مدينة طولكرم، ومدينة نابلس ومخيماتها وبلدتها القديمة وحاراتها، حيث يتمّ التحضير للمفاجأة المقبلة التي قد تكون على شكل عبوة ناسفة تجعل صراخ جنود الاحتلال يدوّي في تل أبيب، أو عملية قنص، بينما تتأهب الخلايا النائمة والذئاب المنفردة، للانقضاض على هدفها.
باتت الورقة الوحيدة بيد السلطة الفلسطينية، في التوجّه إلى «محكمة العدل الدولية»، فاقدةً لبريقها
هكذا، دقّت حالة المقاومة في الضفة الغربية جرس الإنذار لدى الكثيرين، واستدعت تدخلاً أميركياً عاجلاً بعد سنوات من عدم الاكتراث، لتسليم السلطة الفلسطينية أسلحة ومعدات ومركبات مصفحة، بموافقة من حكومة الاحتلال اليمينية، وتجهيز قوات الأمن بوسائل تكنولوجية متقدمة لتحسين قدراتها الاستخبارية، وإنشاء وحدة إلكترونية ستسمح لتلك القوات بتنفيذ عمليات تجسس وجمع معلومات استخبارية، بما في ذلك اختراق الهواتف المحمولة. وفي هذا السياق، نقلت صحيفة «يسرائيل هيوم» العبرية، عن مصدر أمني إسرائيلي، قوله إن هذه المساعدات العسكرية «يمكن أن تسهل على قوات الأمن الفلسطينية مهمتها، وتمنحها الأدوات اللازمة لتعقب المسلحين، على سبيل المثال، في مخيم جنين للاجئين والقيام باعتقالات»، وذلك في إطار «تعزيز السلطة الفلسطينية في حربها ضد مقاتلي حماس والجهاد الإسلامي والخلايا العسكرية المسلحة في الضفة الغربية».
إذاً، يوماً بعد يوم، يكرّس الاحتلال الوظيفة المحددة للسلطة الفلسطينية، حتى باتت الورقة الوحيدة بيد الأخيرة، المتمثلة في التوجه إلى «محكمة العدل الدولية»، والتي طالما استخدمتها للضغط على إسرائيل و«المجتمع الدولي»، فاقدةً لبريقها، وخصوصاً أن هذه الورقة لم تحرز أيّ إنجاز يُذكر، لا بل إن السلطة نفسها رضيت بالتخلّي عنها في سبيل الحفاظ على وجودها وقيادتها، بعدما هدّدها الاحتلال بإعلان «الحرب» عليها إذا ما طلبت فتوى من المحكمة بشأن الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية. وفي السياق، قال مستشار «الأمن القومي»، تساحي هنغبي، الذي يُعَدّ حلقة الاتصال الإسرائيلية مع السلطة الفلسطينية، إنه «لم يعد بإمكاننا قبول الحملة التي يشنّونها (مسؤولو السلطة) ضد مقاتلي الجيش الإسرائيلي باستخدام أدوات الجهاز القضائي الدولي». وهدّد هنغبي السلطة قائلاً: «إذا قُدّم مقاتل أو جندي أو ضابط في الجيش الإسرائيلي إلى العدالة أو المساءلة القضائية، فإنكم بذلك تعرّضون وجودكم ذاته للخطر»، لافتاً إلى أن «هذه الخطوة تتعارض مع كل الاتفاقيات التي وقّعناها ومخالفة لها (...) أنتم تتعاملون هنا بإرهاب». وتابع: «أوضحنا للفلسطينيين أن النتيجة العملية لذلك ستكون قطع العلاقات الأمنية والسياسية مع السلطة الفلسطينية فوراً، وإذا فعلنا ذلك فإن مصيرهم سيكون كما حدث في غزة بعد فك الارتباط، حيث أطلق الإسلاميون النار على ركبهم بكل بساطة. أنا أقول ذلك بصراحة، لقد تم تحذيركم، وهذا ليس شيئاً يمكنكم الاستخفاف به».
وبينما تراقب السلطة طبخة التطبيع الإسرائيلية - السعودية بصمت، لا يبدو أنها ستنتقده أو تهاجمه أو تتخذ موقفاً ضد السعودية في حال التوصل إليه، إذ تمنّي نفسها بالحصول على بعض الهبات المالية الموعودة، والتي بدأت مؤشراتها تظهر مع إعلان المملكة استئناف دعمها للسلطة. وفي السياق، قال هنغبي، الذي يدير حالياً الحوار مع السلطة بشأن التطبيع الإسرائيلي - السعودي، «(إننا) ما زلنا نحاول التوصل إلى اتفاقات معهم في الجوانب الأمنية، وتحمّل المسؤولية عن الأمور المتعلقة بالحياة في المنطقة أ (وفقاً لاتفاقيات أوسلو)»، وأضاف: «لقد أجريت محادثات طويلة مع الفلسطينيين، هناك بعض الثمار التي جنيناها من هذه المحادثات، وذلك لأول مرة منذ اتفاقيات كامب ديفيد. إذا كان هناك اتفاق بين إسرائيل والسعودية، فسيكون ذلك لأن كلا البلدين يريدان ذلك».