إذاً، ليس صدفةً، كما تدلّ كل المؤشرات أن عملية «طوفان الأقصى» (رغم المدة الطويلة التي تطلّبها إعدادُها على النحو المحكم والفعّال الذي ميّز تنفيذها)، قد حصلت، بعد أيام قليلة، من إعلان السعودية وصول علاقاتها مع العدو إلى مرحلة متقدمة! إنه، مرةً جديدة، استشعار الخطر من قِبل الشعب الفلسطيني، والذي جرى التعبير عنه بواسطة «حماس» على النحو الذي رمى إلى قلب الطاولة على المتطرفين الصهاينة، والمطبِّعين من الأنظمة العربية التي تدور في الفلك الأميركي، ولغرض إعادة الأمور إلى مبتدئها الأول.
لا شكّ أنه سيكون لـ«طوفان الأقصى» نتائج كبيرة، مهما كانت المحصلات المباشرة التي سيفضي إليها الصراع الضاري الراهن
كان ثمة دائماً صراع، خفيّ أحياناً، وظاهر غالباً، ما بين اتجاهين: الأول الذي يقوده الصهاينة وحماتهم وفي مقدمتهم واشنطن، من أجل تصفية القضية الفلسطينية بكل الوسائل بما فيها الأكثر إجراماً ووحشية ودموية. بلغت الذروة مع مجيء حكومة المتطرفين في إسرائيل برئاسة نتنياهو. هذه الحكومة ذهبت بعيداً في الاستفزاز والانتهاكات والاعتداءات، بما في ذلك على المقدسات من دون أن تُواجَه سوى ببعض العتب الناعم من قِبل من يصنّفون أنفسهم «خدم الحرمين» ورعاة المقدسات، أو من قبل المتاجرين بحقوق الإنسان وحريته وسيادة البلدان وحقوق شعوبها. والطرفان المذكوران يمكن إيجادهما دائماً وأبداً، في المعسكر الغربي والدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. كل ذلك جرى ويجري بالتزامن مع الإمعان في تفكيك البلدان العربية وتفتيتها وإغراق المزيد منها في أزمات وحروب وانقسامات لا تنتهي... أما قطار التطبيع فلم يستثنِ حتى تلك الدول المنهكة بالانقسامات والأزمات على غرار السودان وليبيا. وأخيراً السعودية التي تقع فيها قِبلة المسلمين الأولى وأبرز مقدساتهم. كان الاتجاه السائد يشق طريقه بقوة، ويعزِّز نجاحاته بمزيد من الضغوط، واستعصاء الأزمات، والعقوبات، والحصار والإغراءات والتهديدات وكل ما يقع في نطاق «الحروب الناعمة» بكل أدواتها الدعائية والإعلامية والتحريضية والإغراقية والإغرائية، يدخل في هذا السياق، أيضاً، وسم كل مقاومة للعدوانية الأميركية – الصهيونية بالإرهاب! لقد اقترن زرع دولة الاغتصاب الصهيوني ودورها العدواني والتوسعي، بمشروع الهيمنة الغربية عموماً (والأميركية خصوصاً)، على المنطقة. المشروع الصهيوني هو جزء من المشروع الاستعماري الغربي وأداة له في الوقت نفسه. ولذلك حظي هذا المشروع بدعم لا مثيل له ولا حدود. وهو ما نشهد نموذجاً عنه الآن في الحرب على غزة التي تحوّلت إلى حرب صهيونية أطلسية بكل ما في الكلمة من معنى.
في الطرف الثاني، كان يقف، وبشكل متواصل، رغم الأخطاء والمراوحة والتعثُّر أحياناً، فريق يسعى إلى مقاومة خطط الفريق الأول وسياساته وإجراءاته. وهو فريق فلسطيني وعربي وإقليمي ودولي إلى حد متزايد... ولقد أمكن في هذا السياق النجاح في منع سقوط سوريا في يد المحور الأميركي – الإسرائيلي... وتمّ، إلى حدٍّ كبير، استنزاف وإضعاف محاولة السعودية لبسط سيطرتها الكاملة على اليمن. كذلك أمكن إقامة توازن إيجابي في العراق، رغم السلبيات الكبيرة التي يولّدها نظام التحاصص الطائفي – المذهبي – العرقي... كذلك تمَّ إفشال محاولة خنق المقاومة في لبنان من خلال تحميلها مسؤولية الأزمة والانهيار، ومنعها، بالتالي، من الاستمرار في التصدي للعدو، ولدوره العدواني التوسعي في لبنان والمنطقة. وقد كان للعلاقات السياسية مع روسيا والصين دور مهم في دعم مسار التصدي للمخططات الأميركية والصهيونية. وهي علاقات ينبغي تطويرها لتتخذ طابعاً استراتيجياً في كل الحقول السياسية والاقتصادية والتنموية، على غرار ما أُقرّ، خصوصاً، في الزيارة الأخيرة للرئيس السوري للعاصمة الصينية.
لا شكّ أنه سيكون لـ«طوفان الأقصى» نتائج كبيرة، مهما كانت المحصلات المباشرة التي سيفضي إليها الصراع الضاري الراهن. لقد سقطت هيبة العدو وحماته ممّن تتجه إليهم، معاً، أصابع الاتهام بالتقصير والإهمال العسكري والمخابراتي (فضلاً عن المسؤولية المباشرة عن استمرار مأساة الشعب الفلسطيني). إن مساراً جديداً قد شقّ طريقه بقوة لمصلحة تطوير النضال لاستعادة حقوق الشعب الفلسطيني، ولإضعاف الهيمنة الأميركية على المنطقة ولإطلاق مسيرة تحررية تنموية حقيقية جدية وجذرية وشاملة، تكون في القلب منها قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه. أمّا شرط كل ذلك، فهو المباشرة في بدء مراجعة جدية، واسعة وصادقة، للتخلص من السلبيات والثغرات والأخطاء والأوهام والفئويات.
* كاتب وسياسي لبناني