بالتبعية، وعلى رغم الإمكانات الهائلة التي تملكها، والدعم الأميركي والغربي، تلقّت الأنظمة العربية الموالية لواشنطن، وخاصة في الخليج، ضربة قوية على مستوى المشروعية، بانحيازها العلني أو الضمني إلى العدو، فعادت لتبدو أنظمة متهالكة، على رغم أنه لم يمضِ وقت طويل على تجديدها شبابها، بتسلّم الأجيال الجديدة الحكم في معظم دول الخليج التي تجري محاولات حثيثة لعزلها عن المحيط العربي، من خلال تقديم انتماءات أخرى، تستند إلى إحداث تحوّلات ثقافية في المجتمعات والنهضة العمرانية، ويُراد من خلالها دمج المنطقة أكثر في التحالف الغربي. في هذه المنطقة أيضاً، صارت المقاومة بالنسبة إلى شرائح واسعة، خياراً مجدياً ويحظى بشعبية لا سبيل لتخطّيها. وعليه، فإن الضربة التي تلقّتها تلك الأنظمة لم تكن للحكّام الحاليين بشخوصهم حصراً، وإنّما كذلك للسلالات التي تحدّروا منها والتي يعود إليها تمكين الولايات المتحدة وإسرائيل من رقاب أهل المنطقة في المقام الأول، خلال المرحلة التي قامت فيها دولة الاحتلال، وتمكّنت من إلحاق هزائم متلاحقة بالعرب، أي أنها تلقت طعنة في شرعيتها التاريخية المرتبطة بالاستعمار. ولذا، نجد الأنظمة المشار إليها تبحث أكثر من تل أبيب عن صورة انتصار إسرائيلي ما على جبهة غزة، ولا تجد. ولعلّه تكفي لملاحظة ما تَقدّم، مراقبة حماسة قناة «العربية» لأيّ تقدّم إسرائيلي في الميدان.
الضربة التي تلقّتها الأنظمة الخليجية لم تكن للحكّام الحاليين بشخوصهم حصراً، وإنما كذلك للسلالات التي تحدّروا منها
أما السلطة الفلسطينية، التي تحوّلت تحت قيادة محمود عباس، إلى نظام عربي فاسد آخر، تُضاف إليه بشاعة الاحتلال، فقد تكون الأكثر تضرّراً من حرب غزة. وسواء كان يقصد أو لا، مثّل عباس وأركان سلطته غطاء لتوسيع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلّة بلا أدنى تكلفة، مقابل الرواتب التي يحصل عليها موظفو السلطة وعناصر قواها الأمنية. وهم من أتاح للولايات المتحدة، تغطية السياسة الداعمة لإسرائيل، بمفاوضات لا تنتهي، ولا تحقّق شيئاً، تحت عنوان كذبة "حل الدولتين". فلو كان عباس ضنيناً بالقضية الفلسطينية، لبدأ من حيث انتهى ياسر عرفات، الذي اكتشف منذ سنوات طويلة عقم المشروع الأميركي للسلام، وعاد إلى خيار المقاومة ودفع حياته ثمناً له. والكلام الأميركي الحالي عن إعادة إطلاق "حل الدولتين" بعد حرب غزة، دليل إفلاس السياسة الأميركية وخوائها، وانعكاس لتراجع موقع واشنطن، وتعاظم النقمة الشعبية عليها في كلّ أنحاء الشرق الأوسط. هنا، يكفي سماع ما قاله الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، قبل أيام، حين اعتبر أن «مسار حلّ الدولتين فكرة استُنفدت بعد ثلاثين عاماً»، داعياً إلى «الاعتراف بالدولة الفلسطينية وإدخالها الأمم المتحدة». وعلى أيّ حال، فإن عباس كان يتفرّج على أراضي الضفة الغربية وهي تُقضم من دون أن يفعل شيئاً، ثمّ جاءت حرب غزة لتبثّ روح الثورة في القضية الفلسطينية من جديد، وترفع بشكل كبير شعبية المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية والعالم العربي، والعالم كلّه.
ثمّة عنصر مكمّل لتلك الصورة، هو ما يجري في الداخل الإسرائيلي، حيث يبدو أن دور «الذئب» الذي يقوم به رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، أمام الجمهور الإسرائيلي من جهة، وأمام العالم من جهة أخرى، صار مكشوفاً. هو فشِل أمام جمهوره، حينما أخفق في منع «طوفان الأقصى»، ثمّ حينما كذب عليه بإطلاق وعوده، التي لم يستطع تحقيقها، بالقضاء على «حماس» وتحرير الأسرى من خلال اجتياح قطاع غزة. أمّا أمام العالم، فـ«الدردشة الحيّة» التي أجراها على منصّة «إكس» مع مالكها، إيلون ماسك، الذي زار إسرائيل بعدما تعرّض لهجوم إسرائيلي بسبب ما تنشره منصّته، تصلح نموذجاً للحديث عن فشل آخر. «الذئب»، على كلّ حيله، لا يستطيع أن يؤدّي دور الضحية. هذا ما حاول نتنياهو القيام به، لكن الحجة التي ساقها لا تقوم على نفي صفة الذئب عن نفسه، وإنما على السبب الذي جعل ذئاباً أخرى تنجو بما تفعل، بينما هو لا. هذا هو مغزى سؤاله ماسك خلال الدردشة: «أين كانت هذه التظاهرات في باريس ولندن وواشنطن وسان فرانسيسكو عندما قُتل مليون شخص في سوريا ومئات الآلاف في اليمن»؟ ليخلص إلى أن «هؤلاء لا يتظاهرون حبّاً بالفلسطينيين، وإنما كرهاً بإسرائيل».
أما اليوم التالي للحرب الذي كانت تريده أميركا وإسرائيل بلا «حماس» في غزة، فسيكون، وفق وقائع الحرب، وكل ما أحاط بها، فاتحة لمرحلة مختلفة نوعياً من الصراع بين المقاومة، التي ازدادت قوة وشعبية، وأميركا وإسرائيل والغرب، الذين فقدوا خلال الحرب كل ما كانوا يختبئون خلفه.