هنا، يمكن القول إن الصراع خيض على مستويين، أولهما رسمي بقيادة الأنظمة العربية التي كان قرارها خاضعاً أولاً لحسابات السلطة، وثانياً لحسابات «المحيط» الجديد. والمستوى الثاني شعبي كان قد بدأ مع ثورة القسام، ثم جاء تأسيس «جيش الإنقاذ» الذي قاده فوزي القاوقجي في سياقاته. وهناك الكثير من الوثائق التي تُشير إلى أن المستويين، آنفي الذكر، لم يكونا على «وفاق»، بل إن بعض تلك الوثائق يشير إلى أن ثمة «مخاوف» كانت تعتمل لدى الأول من أن يتسيّد الثاني المشهد، فتكون للفعل عواقبه التي سرعان ما تمظهر بعضها في انقلاب حسني الزعيم في دمشق في آذار 1949، ثم في ثورة تموز 1952 في القاهرة.
من حيث النتيجة، عملت الأنظمة العربية خلال مراحل الصراع الذي أدركت أنه سيتّخذ منحى تصاعدياً قياساً إلى الملامح التي راح يتّخذها الكيان الإسرائيلي الوليد، على احتواء الشارع العربي الذي كانت ذاته الجمعية مدركة جيداً لمخاطر الكيان، وهي تُبدي استعداداً لمقاومته. وعليه، فقد راحت محاولات السيطرة على الشارع تتّخذ أشكالاً شتى لها علاقة بالظروف والمعطيات التي يعيشها كل بلد على حدة. والشاهد هو أن تلك الأنظمة، إذ دعمت قيام «منظمة التحرير الفلسطينية» في اليوم الأول من عام 1965، فإنها كانت تسعى إلى احتوائها ووضع سياساتها في قوالب خادمة للنظام الرسمي العربي، حيث ستُتيح تركيبة المنظمة حظوظاً وافرة من النجاح لذلك المسعى، انطلاقاً من «الطيف» الواسع لتلك التركيبة، والذي كان يمتد من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، بما يتلاءم مع طبيعة الأنظمة التي كانت تتراوح أيضاً بين ذينك الأقصيين.
القسام كان يدرك أن مواقف الدول العربية المعلنة، هي غير تلك المضمرة، في السياقات التي راح يتّخذها الصراع
كان جيل المؤسسين لحركة «فتح» من الساسة والعسكر، وهو العمود الفقري لـ«منظمة التحرير»، يتكوّن بشكل أساسي من اللاجئين أو النازحين مثل ياسر عرفات وخليل الوزير وجورج حبش ونايف حواتمة وصلاح خلف ووديع حداد. وهؤلاء خاضوا معاركهم على ضفتين، أولاهما ضفة المشروع الصهيوني التي خيضت المواجهات فيها بمختلف السبل المتاحة، وثانيهما هي ضفة الأنظمة العربية التي كانت تتراوح المواقف منها بين محاولة «الاحتواء» و بين «الضرب تحت الحزام» الذي كان يطمح القائمون به إلى أن يصيب أعماقاً أبعد.
يستذكر «حكيم الثورة»، جورج حبش، في إحدى مقابلاته الصحافية، هجوماً إسرائيلياً على طائرة كانت تهمّ بالإقلاع من مطار اللد في تموز 1948، فيقول إن «ذلك كان أمراً فظيعاً. النساء يصرخن من الرعب، والجنود الإسرائيليون يُشهرون السلاح في ظهور الجميع»، ثم يضيف: «يجب على الإنسان أن يغير العالم، أن يعمل شيئاً ما، يجب أن يقتل إذا اقتضى الأمر». والتصريحات إياها التي خرجت عام 1970 ومن منبر أميركي، كانت تشير إلى وعي متقدّم يريد أن يذهب نحو التعميم. ولو حدث هذا التقدّم، لما حصلت انعطافة أوسلو 1993 التي جعلت «الحكيم» مضطراً لأن يجلس أمام التلفاز يوم 13 أيلول من ذلك العام، ليشاهد مشاهد التدافع بودّ على عشب كامب ديفيد، ما بين ياسر عرفات وإسحق رابين الذي قاد عملية الهجوم على اللد، عندما كان على مشارف عامه الثاني والعشرين.
لم يؤيد «الحكيم» اتفاق أوسلو، لكن تياره لم يكن هو الذي ساد المشهد، ومن ساده تيار الأغلبية الذي كان مستعداً للركوب «في قطار» يجلس في قمرة قيادته ياسر عرفات، الذي بات في موقع «يمون» فيه على تلك الأغلبية للسير بها من دون معرفتها بالوجهة التي ستنطلق إليها الرحلة. ومن حيث النتيجة، كان «جيل النازحين» قد وصل، بفعل عوامل عدة شديدة التعقيد، إلى قناعة مفادها أن «المسألة» لا يمكن حلّها إلا بالتفاوض.
بعيداً عن هذا، ستشهد أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، عندما كانت تباشير «اتفاق أوسلو» تلوح في الأفق، صعوداً إلى «جيل الأبناء» الذي عاش ويلات المخيمات وقهر الاحتلال، ولم يكن ممكناً لـ«طواحينه» أن تنتج تياراً حاملاً لإرث «المهاتما غاندي». بل كان من الطبيعي لها أن تنتج جيلاً يحاول استعادة الشعارات التي أطلقتها «فتح» في بداياتها حين كانت تقول إن «القوة، وليس سواها، هي خير داية يمكن أن يولد على يديها التاريخ». ولم تكن مصادفة أن يقول محمد الضيف في بيانه الشهير، فجر السابع من أكتوبر، بأن هذا اليوم سيفتح «أطهر وأشرف صفحات التاريخ».
كان «جيل الأبناء» من صلاح شحادة ويحيى السنوار ومروان عيسى ومحمد الضيف و«أبو عبيدة»، الذي اختار اللبوس الديني كـ«لاصق» يستحضر العودة إلى أقرب نقطة مضيئة في تاريخ المنطقة، هو صرخة الغضب الثانية، بعد صرخة «فتح» التي تلاشت إثر أوسلو، وهي تهدف إلى تحريك عوامل الصراع من جديد، بعدما سكنت، كما تهدف إلى استنهاض شارع عربي لا تراه راضياً بمسارات التطبيع التي انطلقت بعد 1977 ولم تتوقّف بعد، رغم طبعاتها الأربع، وتوقظ فيه شعوراً بأنه لا نهوض مرتجى في المنطقة، من دون اقتلاع هذا «الورم» الذي يشكل المعوّق الأول لذلك الفعل.