صحيح أنّ الناخبين البريطانيين المسلمين الذين يصوّتون تقليدياً لحزب «العمل»، مصابون بالإحباط من المواقف المتصهينة لستارمر وعصابته اليمينية التي تقود الحزب في مرحلته الحاليّة، إلا أن غالاوي فاز بأصوات غير المسلمين أيضاً، ناهيك بأنّ مسلمي بريطانيا ليسوا كتلة واحدة متجانسة لا ثقافياً ولا طبقيّاً، ولا يمكن افتراض أنهم يدلون بصوت متطابق في كل مرّة. ولذلك، إن انتصار غالاوي يؤكد أن تقدّم «العمل» في استطلاعات الرأي المرتبطة بالانتخابات العامة ضعيف وسطحي، ومدفوع بشكل شبه كامل بنفور الناخبين من مدة المحافظين الكارثية في السّلطة، وأن تصويتهم لمصلحة «العمل» سيكون بمنزلة اختار السيئ على الأسوأ في ظل غياب البدائل.
واقعة روتشديل ليست بالضرورة ضمانة بتغيير مقبل، وسط افتقار اليسار البريطاني إلى البرامج
وفي الواقع، إن ثلث الناخبين فقط يعتقدون بأن ستارمر خيار جيّد لقيادة «العمل»، بعدما تخلى عن تعهّداته لهم، من فرض ضرائب على الأثرياء، إلى استعادة الملكيّة العامة للمرافق، وإلغاء الرسوم الدراسيّة، وصولاً إلى إنفاق 28 مليار جنيه إسترليني على صندوق للاستثمار في الطاقة الخضراء، وانتقل بكليته إلى أقصى اليمين واعداً بالإبقاء على سياسات المحافظين التقشفيّة التي تسببت في إفقار ثلثي المواطنين، ورفض إعادة العمل بسقف لمكافآت كبار المصرفيين. ويضاف إلى ما تقدم، وقوفه بشكل كامل إلى جانب إسرائيل، واعتباره أن للأخيرة الحق في قطع المياه والطاقة عن قطاع غزّة، وامتناعه عن تأييد الدعوة إلى وقف إطلاق نار فوري في غزة، وتآمره مع المحافظين في مجلس العموم لإسقاط مشروع قرار لـ«الحزب الوطني الإسكتلندي» يدين دولة الاحتلال.
لكن انتصار غالاوي ليس صفعة لـ«العمل» وحده؛ فالرجل الصاخب حصل على مجموع أصوات أكثر من «العمل» و«المحافظين» و«اللّيبراليين الديموقراطيين» معاً، فيما لم يحصل المرشح الذي يمثل حزب «المحافظين» الحاكم على أكثر من 12 بالمئة. وظهر ريشي سوناك سريعاً في خطاب له من أمام مقر رئاسة الوزراء، مساء الجمعة، شنّ فيه هجوماً لاذعاً على من سمّاهم «المتطرفين الإسلاميين» في محاولة لتشويه الاحتجاجات المناهضة لحرب الإبادة في غزة، وأعرب عن إدانته لانتخاب غالاوي، معتبراً أنّه «من المثير للقلق أن الانتخابات الفرعية في روتشديل أتت بمرشح يرفض رعب ما حدث في 7 أكتوبر، ويمجّد حزب الله». لكن مكتب رئيس الوزراء أزال هذه الإشارة إلى انتخاب غالاوي من النص المكتوب للخطاب الذي وُزّع لاحقاً على الصحافيين.
ويعد سوناك رئيس وزراء باهتاً آخر في سلسلة من الشخصيات العديمة الموهبة التي قدّمها «المحافظون» لقيادة البلاد خلال عقد ونصف عقد، وهو يتزعم حكومة مفتقرة إلى الأفكار والأخلاق معاً، فيما كل الذي نجحت فيه إلى الآن هو الاستمرار في تنفيذ السياسات التي آثرت القلّة على حساب الغالبيّة، وإدخال الاقتصاد رسمياً في حالة الركود، والاندفاع ضدّ المزاج الشعبيّ لخدمة حروب الهيمنة الأميركية في أوكرانيا، وسوريا، وفلسطين، واليمن. وفي روتشديل تحديداً، حيث ثلث أطفال المنطقة يعيشون على جانبي خط الفقر، وبعد سنوات من الإهمال والتقشّف، فإن مجرّد حصول مرشح الحزب الحاكم على 12 بالمئة، هو نتيجة تفوق التّوقعات بالفعل، إذ إن الغضب من السياسات الحكومية ملموس في الشارع هنا، ولا يمكن إخفاؤه، وانتخاب غالاوي – أو غيره -، هو في المحصلة تعبير عن هذا الغضب.
ورغم ما تقدم، فإنّ واقعة روتشديل ليست بالضرورة ضمانة بتغيير مقبل، فغالاوي ذاته وحزبه الصغير واليسار البريطاني برمته ليست لديهم لا البرامج ولا المنصّة السياسية لاكتساب ثقة الجمهور العريض على المستوى الوطني، ولا ثمة إرهاصات بأنهم سيفعلون في أي وقت قريب. ولذا، إن الأكثريّة الغاضبة لن تجد مجالاً لإسماع صوتها في الانتخابات العامة المقبلة، فيما ستنتهي المملكة حتماً بأحد الشبيهين، ستارمر أو سوناك، رئيساً للوزراء لخمس سنوات مقبلة. ومع هذا، فإن صيغ التعبير الجماهيري في بريطانيا عن تأييد الفلسطينيين، سواء أفي الشوارع أم المدارس أم الجامعات أم محطات القطار، أصبحت بمنزلة عنوان عريض تتكثّف تحته تحولات عميقة في نظرة غالبية العمال والطلاب والمهمشين تجاه النخبة البريطانية الحاكمة وسياساتها الإمبرياليّة واستئثارها بموارد البلاد، فيما أصبحت غزّة بمنزلة رمز للنضال يوحّد كل المستضعفين على اختلاف مواقعهم. ولعل تلك الرسالة هي ما فهمته الطبقة الحاكمة من حكاية انتصار غالاوي في روتشديل، وما سيدفعها إلى بذل كل جهدها لإلغاء ذلك الرمز من الفضاء العام، قبل الوصول إلى لحظة الحقيقة عند الانتخابات العامة القادمة.