القاهرة | تلقيت تحذيرات عدة من أن أظهر أنني لبنانية في الأماكن العامة والأحياء الشعبية، وذلك تحسباً لردة فعل بعض المصريين الذين صدّقوا ما روّجه التلفزيون المصري، من أن هناك «آلاف العناصر اللبنانيين المندسين الذين أرسلهم حزب الله وإيران لدعم الثورة لغايات ما». ومن بين الدعايات أن هؤلاء يوزعون على المتظاهرين وجبات طعام سريعة من مطعم كنتاكي، ويدفعون خمسين دولاراً وما فوق لكل معتصم، ولذا استحدث المتظاهرون عند المداخل المؤدية إلى ميدان التحرير، نقاط تفتيش للداخلين الذين عليهم أن يبرزوا بطاقتهم الشخصية المصرية. وإذا لم تكن مصرياًَ، وحدها بطاقتك الصحافية تشفع لك بالدخول. مع ذلك، تعرض الكثير ممن لا يبدون مصريين أو يحملون كاميرات تصوير للهجوم من بعض المتظاهرين الذين صادروا بعضاً منها. ورغم سقوط النظام الذي روّج للأجندات الخارجية، لا يزال البعض يسألني «إنت ليه جاية مصر دلوقتي؟»، وممازحة، يدعوني آخرون لمنحهم حصتهم المؤلفة من أجندة ووجبة كنتاكي ومبلغاً من المال. وينبري شاب لتحفيزي هاتفاً: «أنا مندسّ أنا عايز كنتاكي وبس».
واللافت، تخصيص الثوار المنتصرين ساعات تفكير طويلة للمقاربة بين أشكال التظاهر، التي قاموا بها وما يعرفونه عن الأسلوب اللبناني. تقول الصحافية فايزة الهنداوي من جريدة الكرامة المعارضة، إنها وزملاءها كانوا طوال السنوات السابقة ينقلون تعليقات الشباب خصوصاً على التظاهرات اللبنانية التي نفذت في عام 2005، و تحديداً تلك المطلبية. فقد استحدث بعض الشبان موقعاً على الإنترنت، ووضعوا عدة رسوم كاريكاتورية للمقارنة بين التظاهرتين اللبنانية والمصرية. في لبنان، يظهر المتظاهرون كأنهم في نزهة، فيلبسون أحلى ما عندهم ويحملون لافتات مكلفة الصنع ويحولون التظاهرة الى مساحة للتعبير بأعلى سقف بالرقص والغناء والرسم... بينما في مصر، فالتظاهرة الضخمة كانت لا تتعدى عشرات الأشخاص الذين لا تتخطى مطالبهم خط مبارك الأحمر، ولا تسلم من العقاب القاسي بالضرب والاعتقال من قبل الشرطة. يفخر الشاب أحمد حمد بأن تظاهرة الميدان شابهت تظاهرات وسط بيروت، التي كان يستمتع بالسير معها خلال وجوده في لبنان. ويقرّ بأنه نقل الكثير من الأساليب اللبنانية من الرسم على الوجوه والأجساد والمزامير والطبول ورفع شعارات حادة ضد السياسيين، ورسمهم بطريقة كاريكاتورية وتحويل الأعلام الى ملابس. لكنه يفخر أكثر بأن مصر «عملت أكتر من كدة بكتير»، في إشارة الى آلاف الشعارات والأغاني وطرق طرد الرؤساء التي ابتكرها كل مواطن، منها الزفّة البلدي لحسني مبارك، والزار الذي يستخدم في الأحياء الشعبية لطرد الجن والأرواح الشريرة. لكن أحمد يخلص الى أننا «اخترعنا الطريقة الأسهل لإزاحة رئيس». الكل يتبارى في إبداء تحليله السياسي بصوت عال. «ما بقناش نخاف. الشرطة اللي كانت مخوّفانا انهزمت، وبتطلب مننا السماح على اللي عملتو فينا» يقول الشاب المنخرط في قسم الحراسات في الشرطة. ويبدو متفائلاً بمستقبله، فهو لن يضطر إلى الاستقالة من الشرطة والهجرة الى لبنان للعمل في ظروف صعبة لا تليق بشهادته الجامعية.
سالم وموظفي القطاع العام كافة على موعد مع قبض المعاشات الجديدة في غضون ثلاثة أشهر. وعليه، سيرتفع مرتّبه الى 650 جنيهاً، علماً بأن أصل مرتّبه الحالي 450 جنيهاً، ولا يقبض منه سوى 150 والباقي «بيروح للعصابة»، في إشارة الى النظام السابق.
في الشارع، يستوقفني محمد البائع على كشك صغير. يتباهى أمامي «بقينا زيّكم عندنا حرية رأي وما منخافش من حاجة». وسريعاً ما تظهر نبرة النصح في صوته فيقول «يلا جاه دوركم علشان تتعلموا مننا ازياه تسقطوا النظام مش يبقى كلو كلام وبس»، داعياً اللبنانيين الى إسقاط الفساد ومسبّبي الديون والغلاء، كما فعلوا، مشيراً الى حملة «يا بنوك سويسرا عايزين فلوسنا».
في المقاهي والنقابات التي تشهد ثورات صغيرة، وإذ يستعين البعض بالتجربة السياسية اللبنانية المتنوعة لتحديد توجهاته التفصيلية، يدخل آخرون في جدل تلك التجربة في هذه المرحلة الحساسة. شاكر الفلسطيني الذي «ضحّى» بزيارة الى لبنان لحضور احتفال يتحدث فيه السيد حسن نصر الله، وقرر المجيء من الأردن لمواكبة التطورات المصرية، نصح أصدقاءه المصريين بالتنبه في هذه المرحلة الدقيقة، و«حماية إنجازات الثورة التي لا تزال في مهدها». عبارة أثارت استفزاز الكثيرين ليجزموا بأن «مصر الجديدة مش لبنان». ترفض فايزة، الناشطة القومية، نظريات المؤامرة والشبهة التي يحاول البعض إسقاطها على الثورة المصرية وما بعدها و«إن دعمتها واشنطن ووسائل إعلامها العنصرية». تقول إن المصريين أثبتوا أن ولاءهم لمصر أكبر من انتماءاتهم الطائفية والعقائدية، «لذا لن نسمح كاللبنانيين بأن نساق الى محاور وأجندات، وإن كنا سنطالب في الوقت المناسب بإلغاء كامب دايفيد ووقف تصدير الغاز». وهنا تشير الى تظاهرة قيد التحضير تنطلق من المدن وصولاً الى معبر رفح. لا يقتنع شاكر بسهولة المسألة، انطلاقاً من فلسطينيّته ومعايشته للتجربتين الأردنية واللبنانية. ينتهي الجدل بالصمت المريب بعدما عبر عن خشيته بـ«ألا تكون مصر مثل لبنان، بل أكتر من كدة بكتير».
2 تعليق
التعليقات
-
المقارنةلا شك في أن ما فعله شعب مصر عظيم، وعظيم جداً، ولا شك في أن الوعي المتمثل بالثورة فاق كل ما حدث في لبنان، ولكن يوجد نوع من الازدراء الذي يصدر بين كل فترة وأخرى تجاه ما يحدث في لبنان و"قلة الوعي" اللبنانية. لا ينكر أحد أن الانقسامات الطائفية والسياسية هنا مثار جدل، وتصل إلى أن تكون مثار خزي أحياناً، وأن الوساطات والوضع الاقتصادي والمعيشي المتأرجح لا يرفع الرأس، إلا أنه يغيب عن الكثيرين أن لبنان فعلاً ليس مصر، وليس فرنسا، وليس العراق، وليس كأي بلد آخر. يرجى من جميع من ينتقد ويحتقر ويتبرأ ويحاسب أن يتذكر أن هذا البلد مساحته لا تتعدى مساحة مقاطعة، وأنه بالكاد يملك أية موارد يمكن التأسيس عليها والمترسة خلفها، وأنه يحوي أكثر من 16 طائفة، وأنه محاذٍ لعدو شرس، وأنه تعرض لعمليات اجتياح عسكرية وحروب مدمرة واحتلال ووصاية، ومؤامرات وحملات وتحامل إعلامي وعالمي هائل ومتواصل، واستفزاز واستنفار وتواطئ، ومع ذلك وبالرغم من كل شيء، فهو لا يزال موجوداً. بالرغم من أنه لقمة سائغة وسهلة، وهذا هو الواقع الجغرافي لذي لا يمكن إنكاره، لم يتمكن أحد من ابتلاعه. ولولا "وعي" وعمل الكثير من اللبنانيين لكان تحول البلد منذ سنين إلى محمية إسرائيلية أراضيها مباعة ومؤسساتها مخصخصة. لا نقول أن الوضع القائم طبيعي، أو مستساغ، ولكن لا داعي لكل هذه القسوة. فلبنان ليس أقل شأناً من أحد. وبدل من أن ينهال المحللين والكتاب والمواطنين بالحجارة رشقاً على وطنهم، فليعاينوا كل ما حدث ويقارنوه نسبة لما كان ممكن أن يحدث. ولتتحول انتقاداتهم محاولة لإعادة البناء وإعادة ثقة الناس بأنفسهم وكفانا أسلوب السخرية الذي مضى عليه الزمن
-
الأكبر لبنان كبير بمقاومته ومصر كبيرة بشعبها فكلاهما كبيران يتسابقان في الكبر كل يوم وساعة