strong>كاتيا سرور *الطلعة الجوية الأولى على غزة، استغرقت 3 دقائق و40 ثانية، وشاركت فيها أكثر من خمسين طائرة من طراز (أف 16)، وحصدت إلى النجاح في المفاجأة 225 شهيداً ومئات الجرحى... على زعم مصادر إسرائيلية. بالنسبة إلى إسرائيل، هي «بداية حسنة» يخشى ألوف بن في هآرتس أن تروح إلى «نهاية سيئة»، وبتعبيره الحرفي، أن تتحول من «عملية عسكرية لامعة وجريئة»، إلى «حرب استنزاف باهظة». محذراً من ظاهرة مكررة يسميها «نقطة النشوة»، ويعرّفها بأنها: «النجاح السريع في بدء المعركة، يرفع معنويات القادة ويشجعهم على الاستمرار في القتال «حتى النصر»، اعتقاداً منهم أن استعمال قوة أخرى سيؤدي إلى إخضاع العدو المضروب». وعليه، يذكّر كاتب هآرتس بأنه «في 2006 جُرّت إسرائيل، في لبنان، إلى خمسة أسابيع من الاستنزاف، انتهت إلى صدمة وطنية» وينصحها: «بأن تخرج، في2009، من غزة قبل أن يحلّ محل النشوة المتوهجة صداع المخمورين». هذه ليست كل إسرائيل، فبعضها الآخر ينحو منحى الحكومة الأمنية المصغّرة التي أقرّت في 7 من الجاري توسيع هجومها العسكري في قطاع غزة، وبدء المرحلة الثالثة بالتوغّل نحو المناطق المأهولة.
إسرائيل إذاً أمام خيارين:
ـــ تعظيم المواجهة مع «حماس» وتوسيع دائرة الهجوم. وهذا يعني السيطرة على مجموعة مناطق وعلى رأسها محور فيلادلفيا. وتوسيع المنطقة التي هي ستار حاجز بين مصر والقطاع والتي يعتقد الإسرائيليون أنها المصدر الأساس في تسلّح حماس، بحيث يسيطر الجيش الإسرائيلي على هذا الحاجز مدة طويلة على أن يكون ذلك جزءاً من اتفاق وقف إطلاق النار. ولكن، لكي يتحقق إجراء كهذا، لا بد من طرد آلاف الفلسطينيين وهدم بيوتهم... وهو أمر دونه عقبات، من أبسطها أنه سيرفع من وتيرة النداءات الدولية.
ـــ السعي إلى هدف لم يطرح حتى الآن، بل لعله أُخفي ونُفيت كل نية فيه: إسقاط حكم «حماس». وهذا يعني احتلالاً للقطاع من جديد. وهذا سيكلف حياة جنود إسرائيليين ومواطنين فلسطينيين كثيرين، فضلاً عن أن إسرائيل ستتحمل، بعد ذلك، المسؤولية عن الحياة المدنية لمليون ونصف مليون من الفلسطينيين بما يعنيه من تجديد «الإدارة المدنية»، لا سيما أن رئيس السلطة الوطنية، محمود عباس (أبو مازن)، لن يكون قادراً على تحمل عواقب العودة إلى غزة تحت بيارق المجازر الإسرائيلية.
في المقابل، نجد أن المقاومة الفلسطينية بدورها أمام خيارين:
ـــ أن تقبل التخلّي عن خيار المقاومة والالتحاق بمعسكر «الاعتدال».
ـــ أن تستمر في المواجهة مع ما يتضمن ذلك من احتمالات، منها التدمير والقتل الفردي والجماعي، وصولاً إلى احتمال تصفية المقاومة ميدانياً.
في السياسة، المجال السياسي يعج بالحركة: ـــ الثلاثية التقت وقررت حلاً وسطاً: لا ردعاً ولا تسوية، لنقل إنه ردع «مهندم». أو بتعبير آخر، تسوية دولية واسعة مع الجميع، باستثناء حماس.
ـــ قادة النظام العربي وجدوا أنه من الأفضل ترحيل الأزمة إلى مجلس الأمن الذي يخضع بدوره للسياسة الأميركية.
مركز الثقل في واشنطن، هنا مربط الحصان، والولايات المتحدة تكرر تكتيكها الذي اتبعته في الحرب على لبنان عام 2006: هي «تهدر» الوقت على رجاء أن تحقق القوات الإسرائيلية أهدافها من وراء الحرب على غزة، علماً بأن الصيغة الأميركية لوقف النار الآخذة في التجسد بسرعة، تزعم التذاكي على قاعدة الترويح أن هذه الصيغة تسمح لكل طرف من الطرفين بأن يستعرض إنجازاً ما.
الشيطان، كعادته، سافر في تفاصيل التسوية الأميركية التي، على ما روجت لها مصادر إسرائيلية، ينبغي أن تضم مصر، السلطة الفلسطينية، إسرائيل، الولايات المتحدة، الأسرة الأوروبية والأمم المتحدة. وهي ستتضمن آلية تمنع حماس من استئناف تعاظمها، حيث إن هذه الصيغة تعطي لإسرائيل، منذ المرحلة الأولى، تعهدات ملموسة، لوقف تهريب السلاح من مصر إلى غزة. وحسب الصيغة سيأخذ الأميركيون على عاتقهم مسؤولية مساعدة المصريين بشكل نشط للتصدي لسلسلة التهريب (التي تبدأ، وفق الرؤية الأميركية، من السودان، عبر الأراضي المصرية وصحراء سيناء ونهايتها في غزة!).
الأميركيون هم من سيتولى الآلية العملانية لمنع تهريب السلاح، وفي الاقتراح الأميركي خطوات تفصيلية:
ـــ حفر آبار وزرع عبوات ناسفة على طول محور فيلادلفيا، في ظل تنفيذ تفجيرات مضبوطة تهدم الأنفاق القائمة وتمنع حفر أنفاق جديدة.
ـــ زيادة القوة الأميركية المرابطة أصلاً في محور فيلادلفيا التي كان وجودها قد تقرر سابقاً «لمساعدة المصريين على اكتشاف الأنفاق بوسائل إلكترونية».
ـــ إقامة جدار فصل «قومي» يتيح الدخول إلى رفح فقط في بوابات ومعابر يضبطها المصريون.
ـــ تعميق النشاط الاستخباري، في سيناء خصوصاً، وفي مصر ككل، لإحباط شبكات التهريب وكشفها.
ـــ زيادة الرقابة المصرية على طول حدود مصر مع السودان، في الموانئ المصرية وفي البحر لمنع التهريب إلى داخل الأراضي المصرية.
اللافت في كل هذه الخطوات هو أنها لا تحتاج إلى موافقة حماس. فجميعها يفترض أن تجري داخل مصر. وضبطها يكون بين الأميركيين والمصريين. بل إن المبادرة الأميركية تتحدث عن أن الولايات المتحدة ستعالج قرارات مجلس الأمن كي لا تعرقل الخطوة السياسية المتبلورة. وجلعاد شاليط؟ هو أيضاً يظهر في الاتفاق الأميركي. الصيغة تتحدث عن قرار بالبحث في صفقة تبادل سجناء «حماس» مع جلعاد شاليط سريعاً وفي غضون فترة زمنية قصيرة ومحددة لأسابيع معدودة منذ بدء وقف النار، مع تاريخ نهائي محدد لاستكمال الصفقة.
الأميركيون معنيون بتغطية عجز مجلس الأمن عن إصدار قرار بوقف إطلاق النار، لأن هذا العجز سيحرج النظام العربي الذي بعث بقياداته إلى نيويورك بهدف الضغط على الأطراف المعنية لإصدار مثل هذا القرار. وحسب قرار مجلس الجامعة العربية، وتصريحات الأمين العام للجامعة، فإن ذلك ـــ عجز مجلس الأمن ـــ سيضغط باتجاه عقد قمة عربية، لا تريدها دول عربية عديدة مؤثرة ونافذة، لأن مثل هذه القمة ستكشف مجدداً مدى هشاشة النظام العربي وعدم فعاليته في مواجهة الاستحقاقات العربية المطلوبة، كما من شأن ذلك، زيادة تصدع هذا النظام وانقسامه، والأهم من كل ذلك عجزه عن الإقدام على أية خطوة عملية وجدية من أجل إنقاذ قطاع غزة.
التحرك التركي كان يمكن أن يكون مفيداً في إنقاذ ماء وجه النظام الرسمي العربي، إلا أن عدم زيارة رئيس الوزراء التركي أردوغان لإسرائيل إثر جولته العربية، يشير إلى أن هذا التحرك قد فشل في إيجاد صيغة مقبولة لمقترح يمكن التوافق بشأنه، ما جعل ذهابه لإسرائيل من دون أن يحمل ما يمكن النقاش فيه، أمراً بلا فائدة، وخاصة أن تركيا أعلنت أنها ستدرس إعادة النظر في علاقاتها الاقتصادية والأمنية مع إسرائيل إذا ما استمرت الأخيرة في حملتها العسكرية على قطاع غزة، بعدما شعرت القيادة التركية بأن إيهود أولمرت الذي زار أنقرة قبل أيام من هذه الحملة، أوحى لها بأن إسرائيل ستفعل كل ما في وسعها لعدم الانجرار وراء حملة عسكرية على قطاع غزة. كان بوسع التحرك التركي أيضاً أن يوفر حلاً لموضوع الحوار الدولي مع حركة حماس، الأمر الذي ما زال يمثّل إحدى العقبات أمام أي حل، نظراً لاعتبار المنظومة الأوروبية (بتأثير من الولايات المتحدة) أن حركة حماس، حركة إرهابية، ويجب عدم الحوار معها.
كان بإمكان الوساطة التركية أن توفر هذا الغطاء لمثل هذا الحوار الذي لا يمكن أن ينجح من دون حركة حماس، وربما هذا الفشل التركي كان أحد العوامل التي دفعت بالقاهرة لإعادة الاتصال بحركة حماس، واستقبلت بالفعل ممثلين عن قيادة الحركة في القاهرة، لبحث سبل وقف إطلاق النار في إطار توافق، تُفتح بموجبه كل المعابر، بما فيها معبر رفح، ويتوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
الوساطة التركية فشلت لكن أوروبا ما زالت، وربما غدت أكثر، معنية بإيجاد حل يوفر وقفاً لإطلاق النار في قطاع غزة لأسباب عديدة. إلا أن الجديد في هذا السياق، أن أوروبا باتت تخشى من أن يتحول تأجج مشاعر العداء للسامية إلى عداء مطلق للغرب، وهو ما ظهرت ملامحه في التظاهرات التي عمت العواصم الأوروبية، بعد ما نشرته وسائل الإعلام من فظائع ارتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
من جهتها، تدرك المنظومة العربية استحالة قبول حماس، ومعها ما يسمى بمحور الممانعة، بالصيغة الأميركية، ولكنها تفضل أن يبقى مركز الثقل في واشنطن، لذا، تعول منظومة عرب «الاعتدال» على التحركات الجانبية في الضغط على الولايات المتحدة، وترى في التحرك الفرنسي برئاسة الرئيس ساركوزي أملاً في توسيع دائرة الضغط على واشنطن وإسرائيل قبل أن يستفحل الأمر بما لا يناسب منظومة هذه الدول، لا سيما أن رئيس القمة العربية، الرئيس السوري بشار الأسد، طرح أفكاراً جديدة بشأن انعقاد القمة العربية (قمة مصغرة، أو قمة بمن حضر).
كذلك، الفاتيكان دخل أيضاً على الخط، حين رأى وزير العدل والسّلام في عاصمة الكثلكة الكاردينال ريناتو مارتينو أنّ قطاع غزّة «بات أشبه بمعسكر اعتقال»، الأمر الذي دفع النّاطق باسم وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة إيغال بالمور إلى استنكار تصريحات مارتينو، متّهماً إيّاه باستخدام عبارات «مستقاة من دعاية حماس». أوساط سياسية متابعة لتفاصيل عدوان غزة وجدت في كلام الفاتيكان العلني هذا بداية انقلاب المشهد العالمي والدولي على إسرائيل، ورأت هذه المصادر بداية انهيار الأهداف الإسرائيلية. ولكن واشنطن تبقى مركز الثقل حتى اللحظة، وهي تعيق قراراً متوازناً يصدر عن مجلس الأمن، وهو الأمر الذي بدأ يقلق المجموعة الأوروبية بصورة خاصة، التي يبدو أنها بدأت تحركاً قوياً في اتجاه الإدارة الأميركية الجديدة. والحال أن الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، الذي سوف يباشر مسؤولياته الدستورية في 20 من الجاري، خرج عن صمته الذي طال، واعداً بأن تكون الحرب على غزة أول الملفات بين يديه.
ماذا إذاً؟
ساعة الرمل الاستراتيجية تدنو من آخر حباتها: الأحداث السياسية تقلّص مجال حرية العمل الممنوحة للجيش الإسرائيلي لاستكمال مهماته. الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لم تستطع أكثر من مشروع قرار دولي لـ«هدنة» في غزة. الملامح الأولية لنتائج الحرب على غزة بدأت تتكوّن لتجعلها شبيهة بنتيجة العدوان على لبنان 2006. فهل نكون أمام مشهد استراتيجي جديد، بما في ذلك الأداء الأميركي مع الرئيس الجديد أوباما؟ أم ستتواصل سياسة بوش الشرق أوسطية وينهض أوباما، كعادة الرؤساء الأميركيين في بدايات ولاياتهم، تعاونه بريطانيا وفرنسا «المعنية جداً بضمان أمن إسرائيل»، على ما أكد ساركوزي، إلى إنقاذ إسرائيل من ورطتها؟
* كاتبة لبنانية