سمع علي، صدفة، بالمؤتمر الدولي الذي أقيم قبل أسبوع في لبنان عن المخدرات. قصد ابن السابعة والعشرين عاماً فندق «الحبتور» في منطقة سن الفيل، حيث كانت تُعقد جلسات المؤتمر. جاء فارغ اليدين إلا من أوجاع وآمال. قبل 10 سنوات، وقّع علي مع «الموت البطيء» صفقة، قبل بموجبها، مضطراً، أن تبعده المخدرات، ولو لساعات، عن مشاكل أسرة لا حصر لها. ومنذ ذلك الحين، مات الكثير في داخله، على حدّ تعبيره، إلا الأمل بغد أفضل فإنه «لم يمت بعد». التقته «الأخبار» قبل أسبوع، في إحدى ردهات الفندق المذكور، باحثاً عن الجمعيات التي تُعنى بمساعدة المدمنين. أخبر مندوبة إحدى الجمعيات عن حاله، عن أوجاع العظم التي يشعر بها وهو يخاطبها، عن عدم حيازته مالاً يكفي لمعالجة نفسه، عن بطالته وسجلّه العدلي «الأسود» الذي امتنع كثيرون عن توظيفه بسببه، نتيجة دخوله مرّات إلى سجن رومية. بعد كل ذلك، والأهم من ذلك، أخبرها عن توافر «الإرادة» لديه للإقلاع عن المخدرات إن مدّت له يد المساعدة. لم تكن هذه المحاولة الأولى للشاب العشريني، فقد سبق أن قصد جمعيات أخرى للغاية نفسها، إلا أنه فشل بسبب عدم حيازته مالاً ليدفعه مقابل برامج العلاج وإعادة التأهيل. وعدته المندوبة خيراً، ومعها مندوبة أخرى، ورئيس جمعية، لكن اللافت أن كل هؤلاء الذين يفترض أنهم متخصصون في التعامل مع المدمنين، كانت ملامح وجوههم تشي بشيء من الاستغراب والاستهجان حيال علي. شعر هو بذلك أيضاً، فامتعض قليلاً، لكنه لم ييأس. قبل مغادرته الفندق قال: «تشرفت بمعرفتك صديقي. ليس لدي هاتف لأعطيك رقمه. ولكن إن أنا لم أتصل بك قريباً فاعلم بأني انتهيت».لم يتصل علي، لكنه لم ينته بعد. وصلت إليه «الأخبار» مرة ثانية. أخبر قصته الحزينة، لمع الدمع في عينيه مراراً، تبسّم تكراراً، فكانت النتيجة أن لديه قصة نموذج. قصة شاب دخل السجن وهو فتى، حيث لم يلق إصلاحاً، فخرج من وراء القضبان شخصاً آخر.
قبل 10 سنوات كان علي حدثاً، أوقفته القوى الأمنية بتهمة تعاطي المخدرات. قضى في سجن رومية (مبنى الأحداث) مدّة وجيزة، كانت كافية لكي يخرج خبيراً بمختلف أنواع حبوب الهلوسة، بعدما دخل متعاطياً لحشيشة الكيف فقط. التقى في الخارج بمجموعة رفاق، كان قد تعرّف إليهم في رومية، وصار على لقاء يومي بهم. أين الأهل؟ يسمع علي السؤال فيقطّب حاجبيه، ثم ترتسم ابتسامة ساخرة على وجهه، قبل أن يتحدث عن والد لا همّ له سوى شرب الكحول، وعن والدة تعمل في تنظيف البيوت لا يكد يراها. بعد نحو سنتين، أوقف علي مجدداً بتهمة مخدرات، إضافة إلى السرقة، وألقي به في رومية. «أنا مش حرامي. سرقت إيه، بس مش حرامي. صرت مدمناً على الحبوب والدولسانا والسيمو (أدوية مخدرة)، ثم تورطت في الهيرويين. كان يلزمني ثمن المادة وما عم بشتغل، اضطريت اشترك بسرقة دراجات نارية لبيعها وإشتري المخدرات». قال الشاب، ثم حاول أن يثبت ما لديه من طيبة. «لم أكن أقبل أن استهدف بها فقيراً مثلي. كنت أتحمّس لمن أعرف أن لديه ما يكفي من المال. لا تظن أني عاطل. أنا في كل الأحوال معتذر لكل من سرقت منه شيئاً».
خرج علي من السجن هذه المرّة أكثر خبرة جرمية. ففي سجون لبنان لا يفصل السجناء بحسب الجرم، بل يوضع القاتل إلى جانب مزوّر الشيكات، وتاجر المخدرات إلى جانب المشاغب، وهكذا. خرج من السجن وعاد إلى سيرته الأولى. تعاطي مخدرات وسرقة. وُجد ذات صباح مرمياً على قارعة الطريق، كانت الدماء تغطي وجهه المتورّم. تبيّن أنه فقد الوعي بعد تعاطيه جرعة زائدة، فتعرّض لاعتداء بالضرب من أشخاص لا يعرفهم، بل لا يعرف ما حصل معه أصلاً.
التقى برفاق جدد عرفهم في السجن. صار خبيراً في شتى أنواع السرقة. «كرهت نفسي في تلك المرحلة وكرهت الناس، لأني لم أرد أن أكون مدمناً على المخدرات أو سارقاً». يقول علي متحسّراً، ثم يضيف: «بحثت كثيراً عن عمل، ما كنت أثبت مدّة حتى يُطلب مني إحضار سجل عدلي. كانوا يرون في سجلي أني سجين سابق، فيطردونني من العمل. ماذا تريد مني الدولة ولماذا يسوّدون السجلات؟ هل يريدون أن أظلّ مدمناً وسارقاً؟ الله فتح للناس باباً للتوبة، فلماذا تغلق دولتنا هذا الباب؟».
من جديد، أوقف وأدخل إلى السجن. شعر هذه المرّة أنه داخل إلى «بيته». ثمة كلمات قالها علي تلخّص ربما ما آلت إليه حالته النفسية. «شعرت أن السجن صار بيتي، وأن السجناء أهلي وإخوتي. صرت أحنّ إلى هذا المكان الذي أجد فيه نفسي. أعرف أن كلامي مستغرب، ولكن حقيقة صرت أجد نفسي سجيناً وأنا خارج القضبان، وحرّاً داخلها. أصبحت في الخارج أنظر في عيون الناس وأشعر أنهم كلهم ضدي، يكرهونني. أما في السجن، فالكل حالهم مثل حالي. أقلّ الأمر أنهم يفهمون وضعي».
في لبنان يحتاج المرء إلى مال لكي يُعالج من الإدمان. فالدولة خارج الخدمة وليس لديها مراكز متخصصة لهذه الغاية، وعلي لا يملك المال لدفعه إلى المراكز الخاصة التي «يتاجر أغلبها بالظهور في الإعلام، ولكن في الواقع لا تقدم شيئاً بالمجان». نتيجة خلص إليها علي بعدما اختبر أكثر من مؤسسة. في لبنان مدمن المخدرات مجرم بحسب قانون العقوبات، وعلي مريض يبحث عن علاج. «لا أريد منّة من أحد، كل ليلة قبل أن أنام أدعو ربي أن يرزقني عملاً، أو أوفّق برب عمل يتفهّم وضعي كسجين سابق فيسمح لي بالعمل، عندها سأجمع المال لأعالج نفسي من الإدمان. عظامي تؤلمني من الهيرويين. لا أريد أن أنتهي جثة على مزبلة، تعبت... والله تعبت». علي شاب، مليء بالعنفوان، استصعب بعد هذه الكلمات أن يرى محدّثه دمعاً في عينيه، فالتفت إلى الوراء ومسح دمعه بحركة خاطفة، ثم أعاد وجهه مبتسماً.
يعيش علي اليوم مع المخدرات كارهاً. يتسكّع في الليل حتى الفجر مع أوجاع جسد ونفس. يناشد من يمكنه المساعدة في إيجاد عمل «شريف، من دون منّة من أحد». يختم الشاب بكلمات: «رغم كل ما حلّ بي، لن أقبل المهانة من أحد. فقط لدي أمنية، إن مت أخبروا الناس أني لم أكن سيّئاً، أنا مقبل على مرحلة خطرة مرّ بها أشخاص أعرفهم. إن فارقت الحياة، فإن روحي ستلعن كل من ظلمني».
ولد علي عام 1984 في خضم الحرب الأهلية. لم يكمل دراسة المرحلة المتوسطة نتيجة انتقال سكن العائلة أكثر من مرة، إضافة إلى عدم اكتراث الأهل. دخل السجن 5 مرات، وكان عمره في المرّة الأولى 17 عاماً. يهوى كرة القدم ومشاهدة الأفلام الأجنبية التي «تنقله إلى عالم آخر». طبع على جسده، المشطّب، أكثر من وشم. طبع على يده اليسرى وهو في السجن عبارة: «حبيبتي أمي»، وعلى يده اليمنى... «حياتي عذاب».
7 تعليق
التعليقات
-
إلى الأخ محمد نزالأقترح عليكإلى الأخ محمد نزال أقترح عليك بأن يذهب إلى مكاتب السيد فضل الله الخدماتية لعلّها تساعده عبر إتصالاتها بالمؤسسات الإجتاعية
-
ماذا عن الجمعيات التي تكفلت بعلاجه؟هل قامت اي من تلك الجمعيات بتبنيه؟ بمعالجته؟ بمتابعة حالته؟ ام انهم فقط يحضرون المؤتمرات و يحاضرون فيها و ما من عمل لهم الا جمع الاموال بادعاء انهم NGO?
-
علينا التحرك نحو الحالاتعلينا التحرك نحو الحالات الخاصة، اكثر افادة من التحرك نحو شعارات فضفاضة مثل اسقاط النظام الطائفي وغيرها. بالأمس توفي سجين في رومية لعدم اعطائه العلاج، واليوم علي يصارع بوجه المخدرات. لا بد من فضل المشاكل الاجتماعية والهموم الحياتية عن السياسة، ضروري.
-
المشرع اللبناني لم يتبني سياسة اصلاحية للعقاب 3 العقوية والسجن ليست انتقام فالهدف والغاية من السجن اصلاح المحكوم ليعود الى المجتمع صالحا للإندماج مع مكوناته ويتوقف عن اعتياد الإجرام. اما في لبنان فمن يدخل مدمن الى السجن يخرج موزعا او تاجرت ومن يدخل بجرم شبك دون رصيد يخرج ممتهنا للنصب والإحتيال لغياب الرؤية الإصلاحية في برامج السجن. المشكلة الحقيقية هي تبعية السجن لوزارة الداخلية وهي غير متخصصة في اعداد وتجهيز كوادر وبرامج لتاهيل المساجين في ظل غياب لافت لي دور لكل من وزارة الصحة بالنسبة لمشكلة الإدمان وزارة الشؤون الإجتماعية. اما وزارة العدل التي ستنتقل السجون الى عهدتها قريبا فلا تملك اي خطة او كوادر مؤهلة لإدارة برامج اصلاح السجين. عادة في الدول المتقدمة تلعب الجمعيات دورا اساسيا بالتعاون مع المؤسسات العقابية في ادارة السجون وتقديم الرؤية والبرامج الإصلاحية الا انه في لبنان نشهد ظاهرة كثرة الجمعيات التي تؤسس لجمع الأموال من السفارات والمؤسسات الدولية بإسم حقوق الإنسان ومكافحة الإدمان ومساعدة السجين دون ان تقدم اي خدمة او تصرف المال على هذا الموضوع بل هي عملية نصب واحتبال تحت واجهة الجمعية (يوجد القليل من الجمعيات التي تعمل بجد ونشاط ضمن الإمكانيات المتوفرة).
-
المشرع اللبناني لم يتبني سياسة اصلاحية للعقاب 2 تبدو الدولة اللبنانية كانها تطبق مذهب المدرسة التقليدية القديمة التي كانت مبادئها تقوم على فكرة ان العقاب يساهم في الدفاع عن المجتمع ان العقاب وحده يشكل الوسيلة الوحيدة للردع العام التي تساهم في منع الإجرام أو التفكير في ارتكابهب معنى ان طبيعة التعامل مع الجريمة كان قاسيا قديما وهو ما مهد لاحقا لظهور الكثير من الحركات الاجتماعية المنادية بإصلاح الأوضاع في لسجون لجعلها مكان للإصلاح بدلا من اتكون اداة للإنتقام من الفرد المذنب المحكوم بعقوبة لإرتكابه جربمة. ثم ظهرت نظرية العدالة المطلقة للفيلسوف الألماني " إيمانويل كانط" التي ترى بأن الهدف من العقاب هو إرضاء شعور العدالة لذاتها وليس لها اي منفعة اجتماعية اخرى وأن العقوبة للمذنب هي عدل الجريمة كما قال هيجل . الا ان التظر في مفهوم غاية السجن النفعية للمجتمع وللسجين كمؤسسة اصلاحية برز مع ثلاثة أقطاب أساسية هم سيزار لامبروزو فقيه القانون الإبطالي و العلامة الإيطالي أنريكو فيري تلميذ لامبروزو و"رافائيل جاروفالو" الذي اول من اسس علم الجريمة واستعمل عبارة "كريمونولوجي "، حيث نظروا إلى الجريمة والمجرم نظرة مختلفة عن المظرة التقليدية على أساس أنه الجريمة حقيقة إنسانية واجتماعية وتطورت هذه المفاهيم الى ان اصبح السجن مؤسسة اصلاحية في علم العقاب تأكيدا على إن المجرم شخص يقبل التقويم والإصلاح وان اصلاح المجرم عو غاية العقوبة وهو في نفس الوقت ا حق للفرد على المجنمع الذي يحيط به الممثب بسلطة الدولة الحديثة المفوض من المجتمع للقيام بهذا الدور بافناية والوكالة عنه وهو من واجبات المجتمع.
-
المشرع اللبناني لم يتبني سياسة اصلاحية للعقاب مفهوم السجن الحديث كمؤسسة اإصلاحية عبارة عن سجن تنفد فيها برامج إصلاحية تهدف إلى تأهيل المساجين وإعدادهم للتكيف مع المجتمع مرة أخرى من خلال تطبيق مجموعة من البرامج التعليمية والمهنية والإرشادية خلال مرحلة تنفيذ العقوبة بإعتبار السجن مؤسسة اجتماعية، وأنه نتاج خطة اعدها المجتمع ممثل بالدولة في مواجهة الجريمة والسلوك الإجرامي في المجتمع ، وهو وسيلة من وسائل الدفاع الاجتماعي. ومن هذه المنطلقاتا لتي تم ذكرها يمكن اعتبار السجن بأنه المكان الذي أعده المجتمع لرعاية وعلاج وإصلاح الأفراد الدين قاموا بأعمال إجرامية أوأعمال مخالفة للقوانين التي جرمها المشرع.المشكلة ان الدولة في لبنان لم تتبني اي رؤية اصلاحية للسجين من بين العديد من المذاهب الإصلاحية التي يعرفها علم العقاب وهو العلم الذي يبحث في اغراض العقوبة والتدابير الإحترازية التي توقع على المجرم ودورها كأداة لتحديد افضل اساليب العقوبة لما فيه مصلحة المجتمع والمجرم والدولة. علم العقاب في الدول المتقدمة هو من يهدي المشرع والحكومات لتبني سياسية عقابية واصلاحية في السجون لتصنيف المجرمين في المؤسسات العقابية المختلفة وتقرير الرعاية الإجتماعية والطبية المناسبة لكل مجرم حسب حاجته ونوع جريمته.