عملياً، يُعزى التراجع في الاستيراد إلى أمرين:
- تراجع القدرة الشرائية لدى المستهلك بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية، علماً بأن المستوردين يعتمدون على هذه الدولارات للحصول على تمويل شراء السلع من الخارج.
- الإقفال والتعبئة العامة اللذان فُرضا على لبنان والكثير من الدول بسبب جائحة كورونا. ففي هذه الفترة اقتصر الاستهلاك على السلع الضرورية والأساسية بالتوازي مع انعكاس ارتفاع سعر الصرف على أسعار هذه السلع.
ثمة أمر آخر يؤخذ في الحسبان في ظل هذه الظروف بالتحديد، وهو أن الاحتكارات التجارية تلعب دوراً في رفع الأسعار بهدف تعويض التراجع في المبيعات وتعويض التدني الكبير في رأس المال. ففي ظلّ التسارع في انهيار سعر صرف الليرة، يلجأ التجّار إلى آلية توقعات وتقديرات لأسعار الصرف المستقبلية يتم على أساسها تسعير السلع حتى لا تتناقص قدرتهم على إعادة تكوين مخزوناتهم. والمشكلة أنه كلّما تناقص المخزون، بات ملحاً للتجّار تحويل الأثمان المقبوضة بالليرة اللبنانية والتي تفقد قيمتها بسرعة إلى دولارات… هذا الأمر يزيد في تسارع انهيار سعر الليرة والتخلّي عنها، ويخلق تسارعاً مماثلاً في الطلب على الدولار أيضاً. وبالتوازي أيضاً يقوم المستهلكون بتخزين السلع التي يرون أنها تشكّل حاجة أساسية لهم في ظل هذا الانهيار، وهم يقومون بذلك خوفاً من ارتفاع الأسعار ولأنهم يعلمون أن التجّار يحجمون عن عرض السلع بهدف بيعها بأسعار أعلى.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره
هذه الدورة المغلقة من تسارع انهيار العملة وتضخّم الأسعار والتخزين على جبهتَي التجار والمستهلكين قد تزداد سوءاً، وهي تفرض على السلطة النقدية تغطية الحاجة الإضافية إلى النقد المتداول عبر طباعة كميات إضافية… إلا أن هذه الكميات سيكون لها أثر أساسي أيضاً في تسارع انهيار النقد.
في النتيجة، إن تسارع الانهيار يفرض على السلطات العامة التدخّل بأكثر من طريقة للحدّ منه، أبرزها عبر زيادة الأجور. خلافاً لترهات أصحاب العمل الذين يرفضون مباشرة الحديث عن زيادة الأجور بذريعة تقلّص حجم أعمالهم ومبيعاتهم، فإن هذه الزيادة هي العامل الأساسي في استعادة القوّة الاستهلاكية، وبالتالي في إعادة تنشيط الاقتصاد. هذه الزيادة، بمعزل عن ضرورتها الاجتماعية، هي ضرورة اقتصادية أولاً، وحصولها أمر لا بدّ منه من أجل إعادة التوازن إلى السرعة بين التضخّم وانهيار العملة والمداخيل. عندما يحصل التوازن، فإن مفاعيل التضخّم ستكون بحكم الملغاة.
طبعاً، يتطلب الأمر مجموعة إجراءات أخرى متعلّقة بلجم تسارع انهيار الليرة وصولاً إلى وقفه، لكن ذلك لا يلغي حقيقة أن الانهيار ستكون له مفاعيل عميقة وطويلة المدى على أنماط الاستهلاك والاستيراد لأسباب متصلة بقدرة النظام المالي على تأمين الكمية الكافية من الدولارات للاستيراد. فأي استيراد نريد؟ وأي منتجات يجب استيرادها أو يحتاج إليها السوق فعلاً؟ هل ستبقى رفاهية الاستهلاك أمراً قائماً؟ ما هي حاجات كل طبقة اجتماعية وما قدراتها على تسديد الثمن؟ ما قدرة لبنان على تسديد ثمن كل هذا الاستيراد؟