إنّه الكاتب المنسيّ في أدبنا الحديث. وربّما جاز اعتباره، رغم شعبيته الأولى والترجمات والجوائز، سيزيف الرواية العربيّة... في عمله الجديد، ما زال الروائي الليبي الغزير الذي أهمله النقد، مسكوناً بحكمة الصحراء وناموسها الضائع وحريّة هي ابنة الزهد والتخلّي
حسين بن حمزة
نعلم أن إبراهيم الكوني (1948) روائي مهم وغزير الإنتاج، وأن الصحراء هي عالمه السردي الأثير. لكنّ هذه المعلومات موضوعة على رفّ قصي في أذهاننا، والخشية أن يطول تجاهلُها هناك وتصبح عُرضةً للنسيان. يكاد الكوني يكون اسماً أو رمزاً. أما شغله ومكانته بين أقرانه، والإضافة التي قدَّمها للرواية العربية، فأمورٌ مؤجلة أو غير ملحَّة على ما نحن مشغولون به من رواياتٍ أقل وعورةً من أعماله.
في المقابل، يبدو الكوني نفسه غير عابئ بتجاهلنا له. إنّه يواصل عمله بغزارة مذهلة وغير شائعة في عالم الرواية. و«رسول السماوات السبع» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر) التي بين أيدينا، هي روايته الثامنة والثلاثون! فضلاً عن 33 كتاباً آخر بين قصص ونصوص وأساطير ونقد وموسوعة. بهذا المعنى، تكتسب هذه التجربة الروائية المتفردة والغريبة الأطوار صفةً سيزيفية، مع بعض التصرف في دلالة الأسطورة اليونانية، إذْ لا يتمهل صاحبها قليلاً ليلتقط أنفاسه ويسأل نفسه: لِمَ أثابر على إصدار رواياتي وهي لا تجد الحفاوة المتوقعة أو الاستقبال الطبيعي والعادي من القراء والنقاد العرب؟ ولا الأخيرون يستمهلونه ليهمسوا له: لماذا تُصدر رواياتك واحدةً تلو أخرى غير مكترثٍ بإهمالنا لها وسهونا عنها؟
بدأت تجربة الكوني بثلاث مجموعات قصصية قبل أن يقتحم حياتنا الثقافية برباعية «الخسوف» (1989)، تلتها روايات: «التبر» و«نزيف الحجر» (1990)، ثم ثنائية «المجوس» (1991)... بعد ذلك، بدا أن تسارع نتاجه راح يتناسب عكساً مع جَلَد القارئ العربي وإقباله على مواكبة هذه الغزارة المفرطة. لهذا لم تحظَ ثنائية «السحرة»، وثلاثيّتا «الناموس»، و«سأسرُّ بأمري لخلِّان الفصول»، وغيرها من الروايات المفردة اللاحقة بما حظيت به أعماله الأولى. في غضون ذلك، تُرجمت أعمال الكوني إلى لغاتٍ كثيرة، ونال العديد من الجوائز، منها جائزة الدولة السويسرية على أعماله المترجمة إلى الألمانية، و«وسام الفروسية الفرنسي للفنون والآداب»، وجائزة اللجنة اليابانية للترجمة. لكن كل هذا لم ينجح في إعادة الصلة مع القارئ العربي، بل إن روايته «الورم» فشلت في الوصول إلى القائمة القصيرة في النسخة الثانية من «جائزة بوكر» العربية، من دون أن يُثير استبعادها اعتراض أحد.
نعود إلى الرواية الجديدة التي تسرد حكاية مزَّار، حاكم واحة تيرا الذي يطيحه آكلي، فيقصد واحة «إتران» وحاكمها ميدي. لكن الأخير ـــــ المتواطئ مع آكلي ـــــ يأسره. يتدخَّل المهاجر بسّا ويفك أسره، ثم يأخذه في رحلة طويلة تتخللها حوارات فلسفية عن حكمة الصحراء وناموسها الضائع: آنهي. يعدُّ الاثنان العدة للانتقام من آكلي. يُقتل مزار على يد ابنه. أما زوجته الخائنة، فتقرُّ لبسّا بأنه الرجل الذي أرادته من بين الثلاثة. انسجاماً مع حكمة الصحراء، يرفض بسّا عرض الزوجة، وفكرة أن يكون هو الحاكم الجديد، ناصحاً سكان الواحة بتنصيب أول عابر سبيل حاكماً عليهم.
شخصيات الرواية تتحرك كالبيادق على رقعة الصحراء بوصاياها وحكمتها
على أيّة حال، هناك كثافة غير مألوفة للفلسفة في الرواية، كذلك فإنّها فلسفة تعليمية ووظيفية تشرح للقارئ كل شيء تقريباً. فلسفة تذكّرنا بروايات الأطفال والفتيان التي غالباً ما تنتهي بعبرة تعليمية. شخصيات الرواية نفسها تتحرك كالبيادق على رقعة وصايا الصحراء وحكمتها الأزلية، فضلاً عن أنها تتحدث بلغة موحّدة وذات سويّة فلسفية عالية. القارئ يحس أن الصحراء ليست واقعاً حقيقياً بل استعارة سردية كبرى، وأن الرواية ـــــ بالتالي ـــــ تجري في ذهن الكوني الذي يترجمها على ألسنة شخصياته المطيعة لنفوذه كمؤلفٍ كليِّ القدرة.
خصوصية الكوني مختزلة في عالمه الطوارقي. الصحراء تتكرر بلا نهاية، ولا إشارات تدل على أن ثمة تغييراً في الأفق. من حق الكوني أن يواصل استثمار خصوصيته، لكن الخصوصية ـــــ وهي صفة حميدة ـــــ ليست معصومة من التحوّل إلى عائق أمام استمرارها في إدهاش القارئ وإبقائه على صلة متينة بتطور التجربة نفسها. ما حدث أن تكرار العالم الصحراوي، طرد القارئ بعدما فَتَنَه في البداية. هل في الأمر حكمةٌ ما؟ سؤالٌ، طريفٌ وخبيثٌ كهذا، قد يكون مشروعاً.