بنية تمزج بين التوثيق والخيال والتجريب
بيد أنّ عيد تنبش تيمة «الذاكرة والمدينة»، من خلال جانر مختلف يسمّى Essay Documentary «مقال وثائقي». مرافعة شخصيّة لا تتحلّى بالموضوعية، في سطور رسالة حب إلى والدها الراحل. الصانع جزء من بنية، تمزج بين التوثيق والخيال والتجريب. تستمدّ قوّة من تصميم الصوت، والتوليف (رانيا ستيفان)، والموسيقى (نديم مشلاوي). تصنع أتموسفيراً يراوح بين الديستوبيا والنوستالجيا والاستقصاء، عبر تلاعب واعٍ بالموشن والأبعاد والكتل. كالتجارب المخبريّة، يتشكّل الشريط ويختمر وينضج على طاولة المونتاج، تطويراً عن تصوّر مبدئي أثناء التصوير (سيناريو: رنا عيد، رانيا ستيفان).
نحن في بيروت العالم السفلي. «برج المر» عاد مركزاً عسكرياً، بعد عدم التمكّن من هدمه أو ترميمه. ما كان يُفترَض أن يكون مولاً قبل الاقتتال، يجثم على المدينة كوحش أسطوري من الإسمنت. قبو البوريفاج الشهير ما زال مرعباً. أشباح المعذّبين وصراخهم قد تنبعث في أيّ لحظة. سجن الأجانب الكئيب. أزقّة العتمة. أتوسترادات الوحدة. بارات السلم الهش. الدبّابة تحت الماء معادل بصريّ ـ سايكولوجيّ لتلك القابعة في الصدور والأفئدة. لوكايشنات «أندرغراوند» وعمارة فريدة، تفضّ سينماتوغرافيا طلال خوري بكارتها للمرّة الأولى. وجه منسيّ من عاصمة، لا يتسنّى للجميع مطالعته واستكشاف خباياه. الحقن تحت الجلد، يكشف مزيداً من القروح والمسكوت عنه، وصولاً إلى قاع بلا قرار. يتباين ذلك مع شعرية ودفء خطاب عيد إلى أبيها، يقترح مزيجاً ملهماً من حميمية كابوسيّة وخواء بارد محتقن. إنّه طرح متجدّد عن حبّ المدن وكرهها في آن. «أرغوس بانوبت» عملاق الميثولوجيا اليونانيّة ذو المئة عين، إحالة ملائمة لكلّ شيء. هو جاثم وشاهد وباقٍ لا يتزحزح. هنا يأتي عنوان الشريط، الذي لن يكون مفهوماً لمن لم يشاهده.
ثمّة لغة رفيعة، مهيمنة على المشاعر. الصوت هو السر الأوّل. هويّة الفيلم، ومحدّد صورته. عيد استنفرت ولعها وخبرتها لجلب مناخ أصيل ومغاير إلى الشاشة.. لتركيب علاج ذاتيّ للصدمة بمثلها. وصية الحروب الأثيرة «إكرام الميّت دفنه» لم تنفّذ بعد. ماذا عن القادم؟ وثائقي بيروتي آخر، ولكن فوق الأرض هذه المرّة.
* «بانوبتيك»: 21:00 مساء 24 آذار