يتنقّل بالقارئ في أمكنة مفتوحة ومغلقة ناقلاً إيّاه إلى مناخات صحرواية واستوائية كما إلى مناخات مثلجة ومُشمِسة. يحدث ذلك في صحارى أفريقيا وأدغالها وفي البرازيل والمكسيك كما في تايلاند وجزر القمر وسانت بطرسبورغ وجزيرة المارتينيك واسطنبول وغيرها. يُسهِب في وصف جمال الطبيعة كما جاء في وصفه لشلالات «إيغواسو» البرازيلية (إحدى عجائب الدنيا السبع): «275 شلالاً دفعة واحدة أمام ناظرَيْك. تنزل من الأعالي لتكوّن بحيرات ودوائر. ترسم في هبوطها حبّات من نُور يصل رذاذها إلى وجوهنا فتنعشها تحت المطر. يبدو المشهد كأنّه سمفونيّة من ماء».
في نقله لمشاهداته، يقدِّم كليب معلومات مهمة عن عادات البلاد وطبائع أهلها وتحوّلات المجتمع والسياسة فيها كما في رحلات اليمن والسودان ودمشق والجزائر وأميركا وكوبا وغيرها. تحضر السياسة بقوّة في الكتاب دون أن تتحوّل إلى مادة مجترَّة. يحاول أن «يهرب» منها قدر الإمكان، لكنّ كثيراً من الوقائع والمواقف التي نقلها مرتبطة أصلاً بظروف سياسية لا بدّ من أن تترك بصماتها في كلّ شيء. لكن هل مطلوب من الرحالة، أيُّ رحالة، أن يذهب بعيداً في الجزم بقضية إشكالية تاريخية كبرى كما حصل في رحلة الأندلس مثلاً؟ يقول في الكتاب: «فكرتُ أيضاً بأن اعتزازي بما شيّده أجدادي هنا لا يناقضه سوى فرحي بأنَّ أصحاب الأرض الحقيقيين قد استعادوه. يجب أن نتصالح مع أنفسنا. لا يمكن أن نبكي على أرض كنا نحتلها، ثم في الوقت عينه، نبكي على دولنا حينما احتُلّت». لنتابع. ينقل الرحالة في كتابه صورة الإسلام والمسلمين بأكثر من «نسخة» (كالمتصوفة في السنغال وحكاية مريم نياس ومسلمي بريطانيا وتايلاند وغيرها) كأنه يريد القول إن الإسلام كما يؤثر بممارسات الناس، يتأثر بالمجتمعات المحلية أيضاً. يحصل ذلك أيضاً مع أديان وطُرُق ومعتقدات أخرى يفرد لها مساحة كبيرة (كالأقباط في مصر وطائفة المورومون في كاليفورنيا). في رحلاته التي قاربت الستّين بلداً ووجهة سياحية، يظهر التفوّق الواضح للقارة الأفريقية وأميركا اللاتينية ويليهما أوروبا والدول العربية فيما تكاد تغيب آسيا كلياً باستثناء تايلاند.
يستعيد صور أبيه الذي قتلته قذيفة إسرائيلية في الحرب
يحضر لبنان في «الرحّالة» في قصّتين الأولى بعد عودته إثر حرب تموز 2006 على متن الباخرة الفرنسية والثانية في ربطه لما أسماها قصة حياة بين قريته (نيحا الشوف) وباريس «الحبيبة الأجمل بين مدن الغرب». لكن لبنان، في الحقيقة، كان حاضراً في معظم رحلاته من خلال استحضاره مشاهدات وحوادث عامة وخاصة حصلت في وطنه الأم في معرض سرد تفاصيل حول دولة أخرى. «كلّما فكّرتُ بمزارع قصب السكّر في كوبا، تذكرت تلك الصناديق الكرتونية الكبيرة التي كانت في منزلنا الريفي في لبنان». يتكرّر الأمر في استعادة صور أبيه الذي قتلته قذيفة إسرائيلية في الحرب كما صورة والدته. «لكني عدت أفكر بتَيْنِك العينين اللتين لأجلهما جئت إلى هنا. تذكرت كذلك قبلة أمّي ويدها المصابة بشظية قذيفة». يتعمّد كليب تغييب بيروت الحالية عن رحلاته لا لأنه استقرّ فيها منذ سنوات بل «لأنّ بيروت ما عادت تشبه تاريخها- تاريخنا، فصرتُ فيها كآخر قرميد تهالك فوق بيت عتيق يغالب الزمن بين بُرجين شاهقين بناهما خليجيون وهربوا» على ما يقول في حديثه إلى «الأخبار».
يشير إلى أن أكثر رحلة تركت أثراً فيه هي الصومال حيث «كان الجوع مُعلنَاً على كلّ الوجوه كوصمة عارٍ على جبين الإنسانية والعالم»، إضافة إلى رحلة معازل السكّان الأصليين في كندا الذين سلخوا من أرضهم وتاريخهم. يضيف: «رحلة كوبا تعني لي كثيراً أيضاً لما لها من رمزية كبيرة لشعب لم يذلّه الحصار، فضلاً عن تأثري البالغ عند ضريح المناضل الأممي تشي غيفارا». يقرُّ كليب أن ثمة بلاداً كثيرة زارها ولم يكتب عنها كقطر التي عاش فيها سنة واحدة وإيران والصين والهند واليابان والأسكيمو ومناطق أخرى. «أُحبُّ مستقبلاً أن أذهب للعيش لعدة أشهر في المناطق النائية في الصين مثلاً وأتعرّف عن قرب على الإيغور في الأقاليم الشرقية، كما أتمنى الذهاب إلى معابد الهند والتحدث إلى نسّاكها».
يقدّم كليب في «الرحالة» فيزا مجانية تُمكّن القارئ من التجوال في عدد كبير من دول العالم من دون إجراءات حدودية على «طريق الفرح والاكتشافات اللامتناهي». يُشبه الكتاب مدينة دُبَي التي وصفها صاحب «الرحّالة» بأنها «مدينة تلِدُ مدناً». لا يهمّ كيف ومن أين يبدأ القارئ بـ«السّفر» على متن «خطوط» الكتاب الذي وضعه مؤلف بات اليوم «من بين الأكثر انتشاراً في العالم العربي». يحتاج الأمر إلى مزاج عالٍ فقط. فكلُّ أبواب «الرحالة» توصِلُ إلى المتعة!