فضاء «وسط البلد» في القاهرة، سيجمع بعض هؤلاء بالمصادفة، أو بمواعيد، بصرف النظر عن اختلاف أسلوب الكتابة، و«طرائق اللعب» وفقاً لما يقوله محمد بدوي في تقديمه للكتاب، فالصداقة هنا تسبق النصّ. سنلتقي الشاعر إبراهيم داود في مقهى ما، يلعب النرد، أو في بار، بوصفه «خازن أسرار وسط البلد» رغم أنه لا ينتمي إلى شلّة محدّدة، وسيحضر الروائي إبراهيم فرغلي أثناء زياراته إلى القاهرة كشخص غامض وصامت ومشغول بمشاريعه الكتابية أولاً، رافضاً فكرة الجيل ووضع نصوصه في سلّة واحدة، سواء لجهة المغامرة أو التجريب، فالمهم بالنسبة إليه «أن يظل الكاتب مخلصاً لقيم الكتابة التي يؤمن بها، بعيداً عن كل هذه الضوضاء والضجيج». هناك أيضاً أسامة الدناصوري الحاضر الغائب، يتردّد اسمه بين معظم أبناء الجيل، فهذا الشاعر الذي مات باكراً، ترك بصمة شعرية وشخصية، واتفاقاً جماعياً على خصوصيته. تذكره إيمان مرسال كشاهد على مرحلة، ويحضر في حديث حمدي أبو جليل كمثال على الموهبة النافرة: «كنت منذهلاً به، انذهال المريد بشيخه».
أسامة الدناصوري الحاضر الغائب، يتردّد اسمه بين معظم أبناء هذا الجيل
حمدي أبو جليل نفسه حالة خاصة في التعبير عن بداوة خشنة سلوكاً ومناخات سردية، وسيرة حياة وضعته في مهب أسئلة جديدة «إذا تحدّث بجديّة فأنك ستنصت إليه لأنه يمتلك الحجة والمعرفة». من ضفةٍ أخرى، يأتي مصطفى ذكري، كحالة مضادة، فهذا الروائي والسيناريست بالكاد يخرج من بيته، يعيش بين الكتب، يستل منها أحلامه وكوابيسه، يصنع عزلته على هواه، غير عابئ بالعالم الخارجي. وإذا بنصوصه تتخذ مساراً خاصاً عصياً على التجنيس: «أستمتع أكثر بأن أكون شخصاً كسولاً» يقول. وتنتمي منصورة عز الدين إلى جماعة تمجيد العزلة لإيمانها بأن «الكتابة أكثر المهن فردية» باستعارة من ماركيز. نموذج آخر نجده في شخصية منتصر القفاش لجهة مظهره الخارجي وجوانيته، وقبل ذلك هوسه باللغة العربية وقواعدها، بالإضافة إلى اكتشافاته السردية المرهفة في التقاط حالات إنسانية يصعب رصدها، من دون انتباه كبير، معولاً على السقف العالي لجماليات الكتابة. وبذلك يتقاطع مع هيثم الورداني لجهة الاعتناء بالنصّ لا صورة الكاتب، مؤكداً على ضرورة التخفّي والابتعاد عن تصدير الأنا، تلك المنطقة التي أتاحتها ثورة الاتصالات على نحوٍ مرعب (هنا ستحضر صورة أسامة الدناصوري وأحمد اليماني في باب الصداقة)، فيما تتضاءل جغرافية القاهرة بتأثير الإقامة في برلين. يكتشف حسن عبد الموجود صديقاً غريب الأطوار هو ياسر عبد الحافظ ، زميله في جريدة «أخبار الأدب» صاحب المغامرات العجائبية التي يبررها صاحبها بقوله «البشر سجناء أنماط من صنع آخرين، وضعفاء للحد الذي يمنعهم المقاومة ليكونوا أنفسهم». هذه النظرية سنجدها في مرآة كتابته المتمهلة «كلما راودتني فكرة، طرأت على ذهني عبارة يكون هدفي الأول إسقاط إغراء استخدامها». البورتريه الأخير يحمل صورة ياسر عبد اللطيف صاحب رواية «قانون الوراثة» الذي يتحرّك «بين الخفّة والثقل»، وبين الهامش والمتن. ساخر وحكيم ومشّاء، افتقدته شوارع وسط البلد بعد استقراره في كندا. ولكن هل تحطّمت أسوار «غيتو الحساسية الجديدة» بعد كل هذه السنوات؟ كأن حسن عبد الموجود كتب نصوصه هذه من موقع الحنين إلى صخب سنوات التسعينيات، قبل أن تطيحها خشونة الأزمنة اللاحقة، وأسئلتها المُرّة، فقاهرة الأمس لا تشبه قاهرة اليوم.