«أرض العسل» – تامارا كوتيفسكا ولجوبومير ستيفانوف (مقدونيا) الشمالية
امرأة ترتدي ملابس صفراء تشاهد من بعيد، من فناء بيتها الخلفي في جبال مقدونيا الشمالية، وصول الجيران الجدد. هي غير معتادة على الضوضاء، تعيش مع والدتها وترعاها. تتابع هاتيدز موراتوفا عائلة تركية تدخل عالمها الخاص بطريقة غير متوقعة. عالمها بعيد، تعمل وتعيش فيه في تربية النحل، الذي يعيش بالقرب منها في شقوق جبل في قريتها. «النصف لي، والنصف لك» تقول هاتيدز للنحل، فهي تأخذ فقط النصف لتبيعه وتعيش، وتترك للنحل النصف الآخر. تتقاسم العسل معه بطريقة عادلة ومتوازنة. هاتيدز شخصية عاطفية، صاحبة روح جميلة وواضحة في معاملة النحل، واعتنائها بوالدتها الكبيرة في السن والمقعدة في الفراش. إلى جانب كونها نصف عمياء، لا تسمع والدتها بشكل جيد. رحلة هاتيدز إلى المدينة لتبيع العسل، تؤمن لها حياة متواضعة ولكن جميلة. وصول الجيران الجدد في مقطورة، أسرة كبيرة من أم وأب وسبعة أطفال وماشيتهم، لم يُحدث الكثير من التغيير في حياة هاتيدز. يصبح أحد الأطفال صديقها، يفهم منها أنه لكي يحصل على ما يرغب من العسل، يجب احترام طبيعة النحل ووقته، ودائماً ترك النصف له. ولكن عندما يقرّر رب الأسرة الجديدة تربية النحل وعدم الاصغاء إلى نصائح هاتيدز بسبب الجشع، سوف تبدأ مشاكل تؤدي إلى عواقب غير متوقعة.
«حياة خفية» – تيرانس ماليك (الولايات المتحدة)
في بعض الأحيان، تفاجئنا جوائز الأوسكار باستبعاد أفلام لا يمكن إلا أن تكون موجودة في لائحة الجوائز، ولكن لا يهم، ففيلم المخرج الأميركي تيرانس ماليك عُرض في «مهرجان كان» وكان مرشحاً لجائزة السعفة الذهبية، وهذا وحده يؤكد أنّه من أفضل أفلام عام 2019. الفكرة مستوحاة من قصة حقيقية، عن فلاح نمساوي جُنِّد في الجيش الألماني، فاعترض ورفض الطاعة والولاء لهتلر، فسُجن وحوكم. ولكن ماليك لا يهمه كثيراً تقديم هذه القصة بطريقة عادية، بل اهتمامه يكمن في مسألة تضحية رجل وعدم تخلّيه عن قناعاته، بل حارب كل شيء من أجلها وضحّى بكل شيء حتى بحياته وعائلته من أجلها.
«حياة خفية» عن فلاح نمساوي رفض الالتحاق بالجيش النازي
الفيلم الجديد لا يختلف كثيراً عن السينما التي عوّدنا عليها ماليك. طويل نسبياً (ثلاث ساعات)، مع تعليق صوتي بين الحين والآخر (قراءة رسائل حب، وأفكار الشخصيات الحميمة)، وموسيقى سمفونية، ومشاهد ذات زوايا واسعة للطبيعة، وطبعاً أفكار الفيلسوف الألماني هايدغر (ماليك لم ينهِ بعد أطروحة الدكتوراه في فلسفة هايدغر). من السهل فهم فيلموغرافيا ماليك إذا عكسناها على أهمية الوجود والوقت في فلسفة الألماني. شاهدنا هذه الفلسفة في «الخيط الرفيع الأحمر»، و«العالم الجديد»، و«شجرة الحياة». لكن جذور هايدغر لم تكن واضحة كثيراً كما هي الآن في «حياة خفية». من خلال الفلسفة، يحمل فيلم ماليك شاعرية أصيلة، يصف فيها المشاعر بطريقة حادة. مشاعر لا تُنسى عن الطفولة والعلاقات الأسرية وقوة الذكريات والدمار الناتج عن الخسائر العاطفية. لا يمكن إلّا الاعجاب بطريقة سرد وأسلوب ماليك في تقديم أفكاره. يأخذنا بعيداً معه. يغرزها ويتركنا نتخبط بين قوّتها الحادة وجمال مشاهده السينمائية.
«ميدسومار» – آري استر (الولايات المتحدة)
أقدم وأشدّ المخاوف هو الخوف من المجهول، هكذا يقول كثيرون. لكن آري استر يذهب أبعد من ذلك في فيلمه الجديد «ميدسومار». ماذا لو كان الخوف الحقيقي هو العكس تماماً؟ وماذا لو كنا لا نعرف ما هو الأكثر وضوحاً؟ على هذا المبدأ، يقدم المخرج الأميركي قصته المرعبة في وضح النهار. جمع الكوميديا السوداء والرعب النفسي من دون التخلي عن التأمل المأساوي، مقدماً خرافة أخلاقية حول هذا العالم الشفاف. «ميدسومار» تجب مشاهدته من دون معرفة شيء عنه. يجب ترك الشاشة تقدم المفاجأة. ما يمكن قوله عن الفيلم أنه ربما لا شيء موجعاً أكثر من الجرح العاطفي. حسناً، ربما الموجع أكثر هو الضرب على الجمجمة بمطرقة خشبية. لكن في الحالتين، هناك ألم. في الفيلم، قصتان، ووجعان: واحد من الخسارة والشعور بالذنب من قصة حب بالية، والثاني من طقوس غريبة في مهرجان يطلق العنان لقسوة أبطاله الجسدية.
«التحدث عن الأشجار» – صهيب قسم الباري (السودان)
يرافق أذان المساجد إبراهيم شداد وسليمان إبراهيم ومنار الحلو والطيب مهدي أثناء عملية التجديد. هؤلاء مخرجون سودانيون كانوا سابقاً من مؤسسي «نادي السينما السوداني». اليوم لا سينما في السودان. الأصدقاء الأربعة يريدون إعادة فتح سينما قديمة في الهواء الطلق. يرافقهم المخرج صهيب قسم الباري، مصوّراً مهمتهم الصعبة في وثائقي «التحدث عن الأشجار». أذان المساجد يعمل كدعوة متكررة لتذكير المخرجين الأربعة بحدودهم خلال تنظيف الشاشة القديمة أو تعليق اليافطة الجديدة. هذه الحدود متمثلة في الحكومة. منذ وصول عمر البشير إلى السلطة، اضطرت دور العرض السينمائية في البلاد للإغلاق التدريجي. المخرجون الأربعة لديهم رغبة عاطفية في تنشيط السينما السودانية وإعادة جزء من ثقافتها. مهمتهم شبه مستحيلة، لكنهم يحاربون من أجل شغفهم في السينما. يرافقهم المخرج في خطواتهم وتخطيطاتهم وكلامهم مع الرواد وسكان المنطقة عن السينما والثقافة والحياة. يتعرض الرجال خلال الوثائقي لاعتراضات لا معنى لها من جانب السلطات، لكن روح دعابتهم وتفاعلهم البهيج مع بعضهم يعطيان الأمل، حتى عندما يبدو أن كل جهد ذهب سدى.
كل ما يحدث في الوثائقي عادي جداً بالنسبة إلى المخرجين الأربعة، حتى إنّهم لم يكونوا مقتنعين بأنّ ما يفعلونه يستحق التوثيق لأنهم متعودون عليه في عرضهم للأفلام قديماً في مناطق نائية في السودان. ولكن إصرار المخرج على التصوير أقنع المخرجين الأربعة.
خلال عرض الفيلم في «مهرجان مراكش» الأخير، جلست مع المخرج سليمان إبراهيم. وقتها، أخبرني بأنهم يرون ما يفعلونه عادياً جداً، ولكنه بالنسبة إلى المخرج شيء عظيم. ففي إحدى المرات عندما كانوا يعرضون فيلماً في إحدى المناطق النائية وكان معهم مخرج الوثائقي، هبّت عاصفة ترابية خفيفة، فكادت الشاشة أن تطير. اثنان منهم ذهبا وأمسكا الشاشة بأيديهما طوال مدة الفيلم. ما فعلاه بالنسبة إليهم، كان طبيعياً وعادياً ولا غرابة فيه. أما بالنسبة إلى صهيب، فما رآه كان عظيماً فيه مجهود وحب عظيم للسينما. ومن هنا بدأت فكرة الوثائقي.
هذا الحب العظيم للسينما أظهره صهيب في الوثائقي من دون تكلّف أو ادعاء. ترك المخرجين يقومون بما يحبونه، وصوّرهم في طبيعة عملهم العاشق للسينما. قبل انتهاء الجلسة مع المخرج سليمان إبراهيم، أخبرني عن السينما الآن في الوطن العربي والجيل الجديد الذي يفقد ثقافة الذهاب إلى صالة العرض لأنّ كل شيء متوافر بسهولة على الإنترنت. كلام سليمان كان عاطفياً جداً، أظهر خوفه على الجيل الجديد من طفرة المنصات وسهولة الاستعمال. قال: «هذا الاستسهال خطر»، وثم قال «مسألة السينما في الدول العربية وخاصة في السودان هي في دور العرض. عندما تحدثنا مع المسؤولين بأنّه ليس لدينا دور عرض في السودان، كان جوابهم بأنه لدينا التلفزيون والموبايل»! جواب سليمان كان مباشراً وقوياً. قال لهم: «أين يشاهد هواة كرة القدم المباريات؟ هل يكتفون بمشاهدتها على التلفزيون؟ أين يذهب محبو المسرح؟ هل يكتفون بمشاهدة المسرحية على التلفزيون؟ وهكذا... إذن لماذا على محبي السينما مشاهدة الأفلام فقط على الشاشة الصغيرة والموبايل؟».
«إن شئت كما في السماء» – إيليا سليمان (فلسطين)
لا يختلف فيلم إيليا سليمان الجديد كثيراً عن أفلامه السابقة، لكنّه يقدمه بطريقة غريبة، وهنا تكمن مهارة المخرج الفلسطيني. إيليا سليمان مخرج صامت بامتياز. نرى ذلك في أفلامه كلها. صامت ويراقب، يقول كلمات قليلة جداً. وفي فيلمه الجديد، يقول القليل أهمه: «أنا من فلسطين».
من خلال مراقبة العالم حوله من فلسطين إلى فرنسا فنيويورك، نرى من تعابير وجهه ما يريد أن يقوله. وعندما ينطق، تبدو كلماته ذات معنى مزدوج أو أكثر حسب وزنها وتوقيتها. فيلمه الجديد عبارة عن مشاهد قد تبدو غير مترابطة، ولكن المشترك فيها هو إيليا سليمان، وتدور كلها حول كلمة واحدة وهي: فلسطين.
يأخذ سليمان العبث ككوريغرافيا في أفلامه. أعماله قريبة من أفلام الفرنسي جاك تاتي والسويدي روي اندرسون. لكن لسليمان ميزة تجعله بعيداً قليلاً عنهما. سينما سليمان تفتقر إلى الحشرية والانفتاح، فهو يراقب من بعيد ولا يفحص كل شيء عن قريب كما يفعل تاتي. أيضاً، هو لا يشرح شخصياته كما يفعل اندرسون. نظرته من بعيد هي التي تحدد كل شيء، لا مبالاته هي علامته الفارقة.
في كوكب سليمان، العالم مكشوف، حيث يمكن العثور على فلسطين في كل مكان. على الرغم من الكوميديا في العمل، فإن كل شيء هو مأساة مليء بالمعاناة والدموع. فيلمه كوميديا صامتة بتفكير كئيب وعمق فكري كبير حول العالم بشكل عام وفلسطين بشكل خاص.
* «حياة خفية» لتيرانس ماليك: حالياً في الصالات اللبنانية