مقالات مرتبطة
في كلّ من رحلاته، كان فليفل يحمل كاميرته معه. نتابع هذه الزيارات، والفاصل الزمني بينها هو المونديال كل أربع سنوات. لكأس العالم طقس مختلف في المخيّم. احتفال يدعو إلى سعادة مضاعفة أمام شاشة تلفاز تتسع لعشرات الشبّان، خصوصاً في ظلّ الواقع الرتيب. تشقّ هذه الشاشات المشتعلة في الليل متنفّساً سحرياً. أو هكذا يظهّرها مهدي في شريطه، مثلما يستخرج لقطات مماثلة لزياراته إلى دور السينما في صيدا وداخل المخيّم، ولبنادق يتقاذفها الشباب بخفّة لا تعود تميّز معها إن كانت ألعاباً أم أسلحة حديدية. هذا ما كان يجعله في السابق يفضّل قضاء عطلته في المخيّم على قضائه في الديزني لاند. غير أن المخيّم هو ديزني لاند أخرى كما نراها في الفيلم بمزجه هموم العيش الصغيرة بفكاهة مرّة في تسجيله الصوتي للقصّة، يرافقنا طوال العمل. ندخل تدريجاً إلى سير ثلاثة أجيال ممن هاجروا إلى المخيّم أو ولدوا وكبروا فيه. الأصدقاء والجد والعم ومهدي نفسه الذي يكتفي غالباً بالتخفي خلف الكاميرا. ليس أمامهم إلا خيارات قليلة للتحليق إلى الخارج. أحدها الجنون الذي يتمكّن من العم سعيد تماماً. يصبح أهبل الحي بعدما كان بطله في سنوات الحرب الأهلية. الآن يقفز طوال النهار على السطح، موجّهاً كل اهتمامه إلى الحمامات والطيور في الأقفاص. في المقابل، يتمسّك الجدّ بالعودة رافضاً الهجرة مراراً خارج المخيّم. هو الذي غادر بلدته الصفّوريّة يرى العودة محتومة. يجلس لساعات طويلة في الخارج، كأن العودة لن تتحقّق إلا إذا أطال الجلوس. الأمر ليس مماثلاً لجيل جديد يحاول الفرار ويحلم برؤية ما هو خارج الجدران. أبو إياد ضاق ذرعاً بالنضال وبتنظيم فتح وبالثورة. يحاول أن يرمي كلّ شيء خلفه، أناشيد الثورة وكتبه من بينها كتاب غسان كنفاني «عالم ليس لنا» الذي يحمل الشريط اسمه. يشعر أنها المسؤولة عن كلّ ما حلّ به. مع ذلك، تجرفه النوستالجيا أحياناً، فيجد نفسه أمام شاشة الكومبيوتر يستمع إلى محمود درويش وهو يلقي قصائده في مهرجان لمنظّمة التحرير الفلسطينية. مع تتالي الزيارات السنويّة، لا يتبدّل الكثير في المخيّم. فقط تلاشت الرومانسية التي كانت تطبع ذاكرة المخرج عن المكان. هذا التكرار هو حركة أساسية في الفيلم، وإن كانت حركة مثقلة ومعلّقة، إلا أن المخرج ينجح في أن يخرج منها بحالة بصريّة مكثّفة للمنفى والانتظار.
وفلسطين التي لا تظهر إلا لماماً في بعض المشاهد، تظلّ رغم ذلك ماثلة في رؤوس الشخصيات. يصوّر الشريط تبدّل العلاقة بها في خيالات الأجيال المختلفة. والأهمّ أنها ليست علاقة مثاليّة دائماً، خصوصاً أنها بالكاد تظهر من خلف جدران المخيّم. مثلما ينتظرها الجد بوصفها خلاصاً أبديّاً، هناك من يكيل لها الشتائم كما لو أنها مسؤولة عن كل الخيبات.
https://www.aflamuna.online/#a-world-not-ours