حضور العمران، لا يمكن أن يكون اختصاراً مختزلاً للوحات، إذ أن هناك مستويات عدّة من الأبنية التي يرسمها المفتي. إنها نصب تكتنز فترات وتحوّلات شهدتها بيروت خلال عقود. ماذا يقول الإسمنت والحديد، وصلابة المواد العمرانية على سطح اللوحة؟ بتوثيقه لها، يقوم المفتي بما يشبه قراءة سياسية واجتماعية للمدينة. يقتصّ أحياناً بعض الأبنية، ويعزلها عن مشاهدها العامّة، لتظهر كبورتريهات لهذه المباني. نرى معمل البيرة الذي هُدم في مار مخايل. تأتي إعادة رسمه بمشهده المكتمل، تخليداً لوجه من وجوه المدينة الآفلة. نرى أبنية عشوائيّة في الأحياء، أبنية ذات خاصيّة عمرانية، لكنها متروكة على هامش مدينة لا مكان فيها إلا للعمارات الشاهقة والمتشابهة على حساب كلّ ما له علقة بالذاكرة. بهذه الطريقة، تصنع بيروت غربة قاطنيها باستمرار. هناك مبنى «فورد»، وقصر بشارة الخوري في البطركية... يرسم على خلفيات بيضاء، لكن حالة السكون تلك لن تطبع العمارات المهمّشة وتلك المهدّدة بالزوال فحسب. يتلاعب المفتي بحالة العمران. إذ يخلخل أبنية أخرى مثل مبنى «بنك البحر المتوسّط»، في دلالة على الأزمة الاقتصاديّة التي كشفت هشاشة هذه المؤسسات والمصارف.
ميل اللوحة إلى السكون لا يأتي بفضل كورونا فحسب، بل من ثبات العمران نفسه وخصوصاً حين تتخلّى اللوحة عن أيّ عناصر أخرى باستثناء المشهد المَديني، وهي اللوحات الأبلغ والأكثر كثافة في المعرض. كما أن الركود والخلاء يتزامنان مع لحظة استثنائية هي الأزمة الاقتصادية. الحياة المعطّلة تصل إلى كلّ شيء. ويمكن قراءتها كمستقبل الناس الذين يشعلون الطرقات ويحملون الأواني والأعلام اللبنانية في أعمال أخرى. هنا، تقترح اللوحات معانيَ لا تُحصى للفراغ الذي يبدو أحد العناصر البصريّة الأساسية فيها، إذ تقوم الأعمال على هذا التناقض بين الفراغ والصخب والهدوء والدخان المتصاعد. من ناحية أخرى، يمكننا قراءة هذا الفراغ بمعزل عن سياقه السياسي والاجتماعي، بل كمرادف لحالات وعزلات فرديّة تتوالد في هذه المدينة. انطباع كهذا تمنحنا إيّاه بعض اللوحات مثل أروقة الجامعة اللبنانيّة الخالية من الداخل بألوانها الباهتة. مطار رماديّ معطّل نبتت الحشائش في داخله، متحف يسير فيه شخصان مع ظلّيهما في الداخل. شعور العزلة يبلغ أقصاه في لوحة «حالة الأمكنة» التي تظهّر أبنية يسيل منها الرمادي على الشارع المقفر.
تدرّجات لونية باهتة أبرزها الرمادي بالإضافة إلى تفاصيل معماريّة مثل الضوء والظلال والخطوط المستقيمة
يقلّل المفتي من الألوان التي تأتي كلطخات وسط لوحات تحمل تدرّجات لونية باهتة أبرزها الرمادي. إنه لون بيروت، فضلاً عن الألوان الأخرى التي يظلّ الرمادي حاضراً فيها. مقابل ذلك، يركّز على تفاصيل معماريّة مثل الضوء والظلال بالإضافة إلى الخطوط المستقيمة، بمهارة وقدرة دقيقتين على تشييد مبنى مفصّل على الكانفاس. في لوحة «الحياة: دليل الاستعمال» التي اقتبسها الفنان من عنوان رواية للفرنسي جورج بيريك، نطلّ على مبنى وسكّانه وغرفه الظاهرة. لا بدّ أن هذه اللوحة رُسمت خلال الحجر حيث استحال فعل التلصّص السبيل الوحيد المتاح إلى الحياة. في كلّ غرفة خلف الستائر والزجاج، يمارس كل واحد من السكان يوميّاته ومشاغله العاديّة. في المعرض لا تتجاوز كلّ لوحة بمفردها الظاهر منها. إنها توثيق تفصيلي وحِرَفي ولو أضيفت إليها بعض العناصر الترميزية. لهذا تكتسب الأعمال قوّتها من أنها تأتي ضمن مجموعة من الأعمال تشكّل في النهاية سيناريو شاملاً للمعرض. إلى جانبها، تُعرض في إحدى غرف الغاليري، مجموعة من الاسكتشات السريعة بالحبر الهندي للعمارات كمشاهد تجريدية، تمنحنا فرصة لرؤية لوحات المعرض بحالاتها الأولى.
من بين كلّ الأعمال، يفرد الفنان ثلاث لوحات للحضور البشري المباشر. تحت عنوان «عصفوريّة» هناك ثلاثة بورتريهات متجاورة للوجه نفسه. تتبدّل الملامح والتعابير المصدومة وتلك التي تكاد تقترب من الجنون على وجه الرجل بقبعاته الملوّنة. وإن كانت هذه البورتريهات هي الوحيدة في المعرض، فإنها تحوي كلّ الكثافة التعبيرية للحالات المتناقضة التي كنا قد شاهدناها مسبقاً.
* «ومن ثم السكون»: حتى 18 تموز (يوليو) المقبل ــ «غاليري 392رميل393» (الجميزة ــ بيروت). للاستعلام: 01/567015