لدى وصول شفيق عبود إلى باريس، أدهشته الحداثة الفنية والتيّارات التجريديّة التي كانت سائدة آنذاك أواسط القرن العشرين. تأثر بهذه الأجواء، فنقل ثقافته اللبنانية إلى لوحاته التي طغت عليها طبيعة بلاده، إنّما في منحى تجريديّ. احتفظ بجذوره الشرقية ونهل من حكايات جدّته الشفوية ومن الأيقونات البيزنطيّة. لم يطل الأمر حتى نال اعترافاً بفنّه على نطاق واسع، ليغدو واحداً من رموز الحداثة الفنّية، حتى في باريس. تشهد على ذلك معارضه الكثيرة واحتفاظ لوحاته بنضارتها على مرّ العقود، جامعاً في أسلوبه التجريديّ اللون بالضوء كحلقة وصل بين لبنان وفرنسا، وبين الشرق والغرب، منخرطاً في الحياة الفنية الفرنسية ومناخها الثقافي والفني. إلا أنّه ارتقى بمرجعياته الفنية إلى مستوى الإشراق الصوفي، فأضاءت الأشكال في لوحاته على مزيج الوعي والمشاعر العميقة. وزد على ذلك المسحة الشعرية، وتداخل التراثي بالمعاصر، والمقدّس بالدنيوي، والمرئي بالمتخيل، ذهاباً بـ «النغم» اللونيّ إلى مستويات لا تتجسّد إلا بواسطة عين صافية.
احتفظ بجذوره الشرقية ونهل من حكايات جدّته الشفوية والأيقونات البيزنطيّة
مع تراكم الأعمال والتجارب، تحرّر شفيق عبود تدريجاً من مرجعياته تلك من دون أن ينقطع عن ذاكرة المراحل الأولى في بلده وبلدته. ابن المحيدثة مسقط الشاعر المهجريّ إيليا أبو ماضي، أصبح أيضاً ابن باريس، ولا يحتاج المرء إلى مزيد من الاقتراب من لوحته للتعرّف إلى توقيعه. أسلوبه الخاص والفريد كان توقيعه. علماً بأنّه لم يقع يوماً في فخّ التكرار. بذلك، يسعنا القول إنّ عبود كان أحد رموز حداثتنا الفنية، وفّرت له أعماله شهرة عربية وعالمية. جذوره الثقافية شكّلت وحدة عضويّة مع ثقافته الغربية من دون انفصام، ما أدهش النقاد والفنانين الفرنسيين.
لم يستسلم شفيق عبود البتّة للسهولة، ما رسخ مكانته مجدِّداً ومبتكراً فريد الأسلوب والمضامين. ورغم تبنّيه الأسلوب التجريبي، أبقى على الغنائية الخطية واللونيّة، فتجاوزت لوحته المسافات الضيّقة والدلالات المحدودة نحو الإيحاء غير المحدود. تنبض لوحاته بالغنائيّة الشعريّة وبعفويّة أسلوبيّة هي سرّ تماسك البنية في لوحاته. ونشير هنا إلى مرجع جدّي صدر في بيروت بالفرنسية، لباسكال لاكوريل، يفي شفيق عبود حقّه وموقعه المميز في الحركة التشكيليّة اللبنانية، الحديثة والرائدة، وإنْ في إقامته الباريسية المديدة.
* «باريس ولا مكان آخر»: حتى 22 كانون الثاني (يناير) ــــ «متحف تاريخ الهجرة» (باريس) ـــ histoire-immigration.fr