ما يعزّز النظريّة الآنفة أمران: الأوّل هو تفاعل «الإعلام الجديد» مع الخبر بطريقة معاكسة تماماً لتعاطي القنوات معه، إذ يُنظر إلى هذا الإعلام على أنّه المفتاح إلى العقول المراهقة الشابّة التي دائماً ما تُعتبر الشريحة الأهمّ في الجمهور المستهدَف، نظراً إلى سهولة التلاعب بها. هكذا مثلاً، ضربت منصّة «ميغافون» التي تدّعي أنّها تكنّ العداء لكلّ من سلامة والحزب، عصفورَين بحجر واحد، فنشرت الخبر وأتبعتْه بما كانت قالته الخزانة الأميركية إبّان فرضها العقوبات على حسن مقلّد وشركته، لربط حاكم «المركزي» بالحزب. وحتى بعد نفيه، لم تحذفه المنصّة أو تعدّله على الأقلّ بإرفاق توضيح كما تقتضي الأصول المهنية.
أمّا الأمر الآخر الذي يعزّز النظرية الآنفة، فهو طريقة العمل الأميركية في لبنان عبر السنوات، التي يمكن استخلاص درس منها هو أنّ الولايات المتّحدة «تشيطن» كلّ مَن تريد التخلّص منه، ولو تعاونت معه لعقود، تمهيداً لاستبداله بأشخاص تنعتهم بطريقة مضلَّلة بـ«المستقلّين». مثلاً، أدّى وصول المدمّرين الاقتصاديّين بمن فيهم سلامة في تسعينيّات القرن الماضي، إلى تنفيس الاحتقان بعد الحرب، على اعتبار أنّهم «رجال أعمال لا دخل لهم بالسياسة». وصول فؤاد السنيورة إلى رئاسة الحكومة على أنّه «تكنوقراط» نفّس الاحتقان في عام 2005. وصول ميشال سليمان «التوافقي» إلى سدّة رئاسة الجمهورية نفّس الاحتقان بعد أحداث عام 2008. وأخيراً، أدّى وصول كتلة «التغييريّين» إلى تنفيس الاحتقان بعد تحرّكات عام 2019. وهكذا، فإنّ «حرق» رياض سلامة عبر ربطه بحزب الله يمهّد لوصول حاكم جديد «تكنوقراط»، تماماً كما عند وصول سلامة نفسه. كلّ هذه التسميات بان زيفها مع الوقت، وتبيّن أنّ جميع هؤلاء حلفاء أو أدوات للولايات المتّحدة يدّعون الحيادية، والنتيجة استمرار الاقتصاد الريعي النيوليبرالي بنزعته الاحتكارية، وديون، دولَرة شاملة، تدمير ممنهج للمجتمع...
تغاضي القنوات المهيمنة عمّا بثّته «الحدث»، قابلته بدفاع غير مباشر عن المصرف المركزي، رغم تغطيتها تحرّكات المودعين الذين هاجموا الخميس الماضي فروع مصارف في منطقة بدارو قبل أن يتوجّهوا إلى قصر رئيس جمعيّة المصارف سليم صفير في سنّ الفيل. قبل ذلك بيوم، حاولت LBCI في مقدّمة نشرتها المسائية شرحَ الارتفاع الجنوني لسعر الصرف، فاستنتجت أنّ السبب «العلمي» هو متوجّبات الدولة من رواتب القطاع العام وشراء القمح وأدوية الأمراض المستعصية، وقالت إنّ مصرف لبنان «مجبَر» على جمع الدولارات من السوق لتسديدها، متناسيةً أنّ كلّ تلك الأمور ليست جديدة ولا تضغط بشكل كبير على سعر الصرف، وأنّ «المركزي» يجمع الدولارات من السوق إنّما لإطفاء خسائره وخسائر المصارف، وأنّ هناك إضراباً للمصارف ترتسم عليه علامات الشبه بإغلاقها بعد تحرّكات عام 2019. وأخيراً، لامت القناة «خطّة الكهرباء» التي «تكرّمت» على اللبنانيّين بأربع ساعات، متناسيةً أنّ كلّ ساعة من خدمة الكهرباء الرسمية توفّر من العملة الصعبة أضعاف ما كان سيُنفق على مازوت المولّدات الخاصّة الأغلى ثمناً، ما يعني نظريّاً ضغطاً أقلّ على سعر الصرف.
بالعودة إلى التحرّكات ضدّ فروع بعض المصارف، فقد أخذت القنوات المهيمنة حيالها موقفاً بدا بعيداً عن الدفاع المباشر عن المصارف على جري عادتها، لكنّها لم تقف أيضاً إلى جانب المودعين كما ادّعت إبّان الاقتحامات التي قام بها بعضهم العام الماضي لاستعادة ودائعه بالقوّة. في هذا السياق، وكما هو متوقّع منها، أصرّت قناة mtv على الانحياز إلى المصارف، ولو أنّها غلّفته بإطار «موضوعي»، فأوردت في مقدّمتها مساء الخميس: «مع أنّ التحرّكات محقّة في أساسها، إلّا أنّه لا يمكن لتحرّكات عشوائيّة أن تؤدّي إلّا إلى تحقيق هدف واحد، وهو استكمال ضرب ما تبقّى من قطاعات اقتصادية وصولاً إلى فوضى غير خلّاقة تؤدّي إلى انهيار الدولة انهياراً تامّاً، فهل هذا ما يريده المحتجّون حقّاً؟». هكذا، ربطت القناة بضعة فروع مصرفيّة بمصير الدولة، ضمن المسعى المستمرّ لدرء المسؤولية عن المصارف ورؤسائها وتحميل الخسائر المترتّبة عليهم لخزينة الدولة وللمودعين. ولم تنسَ قناة المرّ تخصيص الجزء الثاني من مقدّمتها للهجوم على حزب الله وأمينه العام بعد كلمته الأخيرة، وعلى اتّفاقية ترسيم الحدود البحرية التي كرّرت تحميلها للحزب مدّعيةً أنّها سمحت لـ«إسرائيل» بمباشرة الاستخراج، وكأنّ القناة باتت فجأة تهتمّ بمقارعة الكيان المحتلّ.