div class="writer-related" style="padding: 1em;" style="background-color:#c0c0c0">ما أن تبدأ المهلة الدستــورية لانتخـاب رئيس جديد للجمهوريـة، حتى يدخل المرشحون في فلكها، التقليديون والجدد في استحقاق للمرة الأولى يقلّ المتدخلون فيه علناً، ويكثرون مـن وراء التكتلات والسفارات والمرشحين أنفسهم، كي يضطلع كل من هؤلاء بدور. استحقاق 2007 لا يوصل رئيساً جديداً للجمهورية فحسب، بل هو خيار سياسي إقليمي
أمين الجميل: السيادة والحوار مهمتا الرئيس المقبل (10)
نقولا ناصيف
يقول الرئيس أمين الجميل إنه غير مرشح لانتخابات الرئاسة اللبنانية. لكنه الأوسع تمرّساً وحفظاً لدروس هذه المطحنة. يكاد يكون وحده من بين حلفائه في قوى 14 آذار خبر مغزى الوصول المكلف إلى منصب ماروني من غير أن يكون بين أيدي الموارنة، ولبناني من غير أن يصنعه اللبنانيون. حلم به والده بيار الجميل مرتين عامي 1964 و1970، ودفع ثمن وصوله إليه مقاوماً منتصراً شقيقه بشير عام 1982 إذ اغتيل، ودفع هو كذلك ولايته برمتها تقريباً ثمن بقائه في حكم كان أشبه بحبل مشدود إلى أوتاد تناقضات تتجاذبه.
ـــ استحقاق مفصلي شبيه بالمرحلة التأسيسية للبنان عام 1943 لانه عاش حقبة طويلة من تعليق قراره الحر وسيادته. وبعد تحرير الجنوب عام 2000 وانسحاب الجيش السوري عام 2005 دخل لبنان مرحلة جديدة، كذلك الأمر بالنسبة إلى الشرق الأوسط الذي يعيش مرحلة تحولات كبيرة كدخول إيران بقوة على سياسة الشرق الأوسط والعالم العربي والتطورات في العراق وفلسطين، وكلها ذات تأثيرات مباشرة على لبنان لأن المنطقة وحدة متكاملة. لذلك فإن الاستحقاق الرئاسي محطة تأسيسية لمرحلة جديدة من التاريخ تتحدد فيها توجهات وخيارات وطنية وسياسية استراتيجية جديدة كون لبنان لا ينفصل عن التطورات المحيطة به، ومن الضروري انتخاب رئيس يستوعب هذه التطورات ويمسك بالوضع الداخلي وتكون لديه القدرة الكافية وإمكان الإتصال مع كل الأطراف كي يستطيع جمع اللبنانيين المفككين سياسياً وجغرافياً واقتصادياً.
هذه هي رمزية الاستحقاق راهناً. المهمة الرئيسية للرئيس الجديدة إعادة بناء المؤسسات سياسياً ورقابياً وانمائياً واقتصادياً ومصالحة لبنان مع محيطه بدءاً بسوريا عبر ايجاد اطار جديد للعلاقات اللبنانية ـــــ السورية، وهو أمر أساسي للبلدين، وأن يطل مجدداً على كل العالم العربي والخارج.
لا ننسى انه تم تفكيك مؤسسات الدولة بشكل مبرمج ومنظم منذ عقود، وآخر مرحلة حصل فيها بناء مؤسسات حديثة كانت في عهد الرئيس فؤاد شهاب بعد ذلك لم تتكرر المحاولة. وحاولت انا عام 1982 ووضعنا برنامجاً متطوراً واعداً لاعادة بناء لبنان، لكن الظروف نسفت كل الاستعدادات وتحقيق هذا البرنامج.
ـــ من الظلم اعتبار ان الرئاسة كانت في يد غير اللبنانيين، لم ينزل رئيس بمظلة أجنبية، كل الرؤساء اللبنانيين كانوا من قيادات هذا البلد، رئيس الجمهورية هو رئيس لبنان بامتياز، الا أن للتطورات الإقليمية تأثيرها في لبنان كما في سائر الدول العربية، كان العنصر الشيعي في الماضي يتأثر بالنجف اليوم اليوم أصبح يتأثر بقم، السني كان يتأثر بمصر اليوم أصبح يتأثر بالسعودية. الظروف اختلفت والتأثيرات كذلك، لكن لا يمكن القول إن التأثير الخارجي هو العنصر المكون للرئيس، بل قوة داعمة، التأثيرات الخارجية تدعم رئيساً ولا تخلقه ولا أن تنوب عن الكتل النيابية.
ـــ أخشى أن أقول نعم، بكل أسف نعم. يجب ان يلتقيا في مكان ما في يوم ما لانهما يعيشان على أرض واحدة. هناك حتمية اللقاء والتواصل، لكن بالتأكيد هناك شرخ كبير، هناك مجتمع يولد في لبنان ويختلف عن المجتمع الذي نعرفه، وطروحات مختلفة ونعتبرها جديدة علينا، وكذلك يخلق على الارض واقع كنا عرفنا مثله أيام المقاومة الفلسطينية في السبعينات، كان سابقاً فلسطينياً وهو اليوم لبناني، لكن النتيجة واحدة. مكمن قلقنا أن الأمن الذاتي في بعض المناطق ليست له تباشير بوضع حد له، بل يربطونه بالنزاع العربي ــــــ الإسرائيلي. وأمر واقع كهذا يمكن أن يستمر 50 عاماً. أين وحدة البلد وهيبة القانون والمساواة بين المواطنين عندئذٍ؟ باسم المقاومة أصبح كل شيء مسموحاً.
ـــ نحن نحاول، وأنا شخصياً أحاول، والجميع يعرف أن يدي ممدودة حتى في أحلك الظروف. أتت انتخابات المتن وفرضت علينا مواقف متصلبة بسبب ظروف الانتخابات، إلاّ أن ما يهمنا هو الحوار والتواصل بعضنا مع بعض. لكنني متخوّف من أن نتفاهم على رئيس لا طعم له ولا لون ويكون دوره لتكريس الأمر الواقع. سيظل هناك مشروعان على الأرض إذا لم نجلس ونتصارح بهدوء.
ـــ يجب أن نتصارح على مفهوم السيادة والمصلحة العامة اللبنانية. هناك خلاف عليهما. هناك مَن يقول باسم المقاومة إنه لا بد من القبول ببعض الخروقات لمستلزمات السيادة. لنتفاهم على ذلك.
ـــ من أين سنأتي به. لا من هنا ولا من هناك. أي غير معني بشيء ولملء الوقت الضائع.
ـــ أولاً يجب أن تجرى الانتخابات الرئاسية. نحن في نظامديموقراطي. هناك أكثرية وأقلية. يحق للأكثرية انتخاب رئيس من صفوفها. وهذا أبسط قواعد الديموقراطية. صحيح أننا نفضّل دائماً التوافق. لكن في حال عدم توافره، لا بد من حسم الأمر. هناك الآلية الدستورية المعمول بها بالممارسة والتقاليد اللبنانية التي تعطي الحق لمجلس النواب في حسم الموضوع. والرئيس سليمان فرنجية انتخب بفارق صوت وكان رئيس كل لبنان. أي رئيس سينتخب، سواء من 14 آذار أو من أي فريق آخر يقتضي أن يصير رئيس كل اللبنانيين ويعمل من أجل تعزيز الحوار، وهذه واجباته وإلاّ يكون يخلّ بها، مع تمسكه بكل مستلزمات السيادة. أنا أعلّق الأهمية الكبرى على مستلزمات السيادة والحفاظ عليها.
ـــ أنا أقول بتطبيق الدستور. الدستور هو الدستور.
ـــ لا أريد الدخول في السجال الدستوري. هناك آراء عدة يجري تداولها، لا أريد الخوض فيها. من المفروض انتخاب رئيس وأن يكون محور حوار جدي وعميق بين كل الأفرقاء السياسيين. وهذا هو دوره، المحافظة على الدستور وعلى سيادة لبنان، وإجراء حوار للتوصّل إلى تصوّر مشترك لمستقبل البلد. نحن في حاجة إلى هذا الحوار لأن الخلاف كبير وجدي وفي العمق ويترسخ أكثر فأكثر، والأسوأ أنه يتخذ بعداً طائفياً ومذهبياً، مما يجعل الأمر أكثر تعقيداً.
ـــ ربما نطلب ذلك الآن وهو ليس في متناول اليد. لكن لا يزال متسع من الوقت حتى نهاية تشرين الثاني المقبل لانتخاب الرئيس الجديد. إذا نجحنا في ذلك والتوصل إلى تصوّر مشترك للمشكلات المطروحة على الأرض اليوم، لا تعود هناك مشكلة حول شخصية الرئيس. كنا قد توصّلنا في مؤتمر الحوار إلى حل بنسبة 90 في المئة من المشكلات وبقي موضوع سلاح حزب الله. وكنت قد طرحت حلاً ممكناً ويؤدي إلى نتيجة معقولة لمعالجة هذا السلاح من خلال حل مشابه للجيش الشعبي، أي كل مواطن خفير ويتحمل مسؤولية الدفاع عن وطنه ضمن إطار سلطة وطنية شرعية ممسكة بالخطة الدفاعية عن السيادة. فلماذا لا نعود إلى المكتسبات التي حققها مؤتمر الحوار الذي دعا إليه الرئيس نبيه بري وكان مهّد الطريق إلى معالجات كثيرة على صعيد الوفاق اللبناني سواء بالنسبة إلى السلاح الفلسطيني أو العلاقات اللبنانية ـــــ السورية وبداية حل جدي للخطة الدفاعية؟ وكنا قد قطعنا شوطاً بعيداً في ذلك قبل أن توقف حرب تموز هذا الحوار. لنمحُ هذه المرحلة السوداء من الخلافات والسجالات المريرة ونعود إلى الحوار الهادئ ونعيد التأكيد على هذه المكتسبات. وأعتقد أنه مع قدر معيّن من الحكمة وبعد النظر والموضوعية نستطيع التوصّل إلى حل ما تبقى من المشكلات وخصوصاً الخطة الدفاعية التي لا أراها مستحيلة. لكن على جميع الأفرقاء في المقابل الاتفاق على مفهوم موحّد للسيادة الوطنية. ليس هناك مفهوم واحد بعد للسيادة.
ـــ قد تكون هذه المرة الأقل من سواها لا تتعقّد الانتخابات الرئاسية بسبب الصراع بين القيادات المارونية في ما بينها. كنا في الماضي القريب نسمع كلاماً للعماد ميشال عون مفاده إمّا هو أو لا أحد. الآن لم نعد نسمع هذا الكلام. إذاً زالت هذه العقدة، قد تكون هناك عقد أخرى. لا مرشح في فريق 14 آذار يقول إمّا أنا أو لا أحد. بل هناك تفاهم بعضنا مع بعض بحيث يكون مرشحاً للمنصب مَن لديه أفضل الحظوظ يؤيده الآخرون. إذاً للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية، لا تكمن العقدة في شخص الرئيس، بل في المشروع، وخارج إطار الصراع الشخصي. الخلاف الأساسي الواقع على الساحة الوطنية يتجاوز الموقع الماروني.
ـــ هذا أمر غير مستحيل، وقادرون على تحقيقه. ولا بد من التوصّل إلى تصوّر مشترك في الداخل وفي العلاقات مع سوريا والتي يجب أن تكون نديّة وتحفظ كلاً من البلدين. ولا بد من أن نصل يوماً نحن والإخوان السوريين إلى إيجاد حل لأزمة الثقة في ما بيننا. تبقى المحكمة الدولية، وقد رفعناها عن ظهرنا، ولتتكفل بها الأمم المتحدة وحسم الأمر. ولست وحدي مَن يقول ذلك. يقوله أيضاً سعد الحريري وفؤاد السنيورة وسائر القيادات. لا نريد قتل الناطور وإنما أكل العنب في ما يتعلق بالعلاقات اللبنانية ـــــ السورية. هذا موضوع خلاف ولكنه ليس مستحيل المعالجة. هناك أيضاً موضوع مزارع شبعا. ومن غير الطبيعي أن تكون هذه المزارع سبباً لتعليق كل مؤسسات الدولة. ورغم أن الجولان محتل تعيش سوريا في بحبوحة ونمو اقتصادي غير مسبوق. فصل السوريون بين الجولان والحياة العادية والاقتصادية. ولا بد من إيجاد طريقة، نحن وحزب الله، حتى نتيح لهذا البلد التنفّس ولا نفرض عليه اقتصاد حرب. من جهة يريد البعض أن نعيش اقتصاد حرب لأنه لا يزال في جو المقاومة والتحرير، ومن جهة أخرى تبدو الحياة السياسية والعامة كأن شيئاً لم يكن. وبذلك نكون نفرض على البلد اقتصاد حرب بينما نحن نستمر في تسيير أوضاعنا السياسية والاقتصادية على نحو معاكس، وهذا يعبّر عن تناقض بين المنطقين.
ـــ التاريخ يشهد أنه خلال ولايتي كان لبنان محتلاً من الجيش الإسرائيلي وتمكّنّا بأعجوبة من المحافظة على وحدة البلد ومؤسسات الدولة، وكنت أنشد الحوار والتواصل دائماً أيّاً تكن الظروف والعلاقات بين الأفرقاء. عندما تسلّمت الرئاسة كانت هناك احتلالات عدة. الجيش الإسرائيلي على أبواب بعبدا والجيش السوري على أبواب بكفيا، وبداية حضور الحرس الثوري الإيراني والمقاومة الفلسطينية التي كانت انتقلت من بيروت إلى البقاع والشمال وأقام ياسر عرفات في طرابلس، أضف وجود سائر أجهزة المخابرات والميليشيات والجيوش على الأراضي اللبنانية، وكانت نشاطاتها متواصلة مع جهات لبنانية عدة. حاربت هذا الواقع بإصراري على الوفاق والتواصل مع كل الأفرقاء وفي أحلك الظروف. ولم يكن ينقضي شهر أو اثنين إلاّ وأطرح مبادرة حوارية مع سوريا ومع الأفرقاء اللبنانيين من جنيف إلى لوزان إلى خلوات بكفيا، إلى الموفدين الرئاسيين إلى اجتماعات سمار جبيل مع الرؤساء كميل شمعون وشارل حلو وسليمان فرنجية، إلى حوار سباق الخيل وكنا على وشك التوصل إلى حل لولا اغتيال الرئيس رشيد كرامي. وكانت كلها مبادرات لبنانية من خلال رئيس الجمهورية، وكان دور الرئيس أساسياً ودور المبادر بالاتصالات وهذه الحوارات، ودفع محمد شقير حياته كونه كان كموفد رئاسي حلقة التواصل بين الأضداد. لم تنقطع شعرة معاوية لحظة. وحينما استشهد الرئيس كرامي كان إبقاء الحكومة برئاسة الرئيس سليم الحص إنجازاً كبيراً. التاريخ سيحفظ طريقة التعاطي مع الحوار في تلك المرحلة. حافظت على المؤسسات، وكان ذلك يتطلب جهداً ومعاناة كبيرة لمواجهة التشنج الداخلي. وفي موضوع العلاقات مع سوريا أتذكر أنه بعد شهر من سقوط الاتفاق الثلاثي في 15 كانون الثاني 1986، التقيت السفير السوري في الرباط وأعدنا إحياء الحوار مع دمشق رغم كل ما كان قاله في حقي عبد الحليم خدام، واستمر التواصل عبر مهمة مهدي التاجر وهاني سلام والرئيس رفيق الحريري وإيلي سالم، وكنا على وشك صوغ مشروع وفاقي للبنان سرعان ما نسفت ذلك تطورات إقليمية، واستمرت العلاقة إلى ما بعد نهاية ولايتي. وتكلمت أيضاً مع الرئيس حافظ الأسد بعد نهاية ولايتي. رغم كل الظروف أبقيت على أكثر من شعرة معاوية تمهيداً لعلاقات سياسية أو تسهيلاً لحلول. وفي اعتقادي أنه لا بد من أن نتوصل إلى حل مع الإخوة السوريين.
ـــ هذه التجربة والسلوك يبنيان للمستقبل. كانت سياستي حينذاك مرتكزة على قاعدتين: أولاهما التشبّث بالحق اللبناني والتمسك بالسيادة الوطنية، وثانيتهما الحوار بأي ثمن. وهاتان القاعدتان أساسيتان للنجاح. لا يمكن أن يكون الحوار والعلاقات الشخصية على حساب السيادة، ولا يمكن كذلك الانغلاق على الذات تحت أي حجة، لأنه في النهاية لا بد من أن يصار إلى الإصغاء إلى رأي الآخر والتفاعل معه والتوصّل إلى قواسم مشتركة لا تتناقض مع الاقتناعات.
ـــ السيادة والحوار نعم.
ولاية كانت... ستكون: الجميع على الخشبة كان هناك أيضاً ما يشبه هذه الأيام: الجميل في مكان ورشيد كرامي رئيساً للحكومة في مكان. تبدّل بعض الأدوار: خرجت إسرائيل من الصراع الداخلي. حالفت سوريا إميل لحود بعدما عملت حينذاك على تقويض حكم الجميل. جنبلاط في الموالاة ضد سوريا ومع النظام الذي غالباً ما نعته بالفاشي. بري في المعارضة وهو على رأس مجلس النواب. المسحيون الموحدون في ذلك الحين حول الجميل وبكركي وعون وجعجع يرفضون رئيساً توافق عليه الأميركيون والسوريون ويصرون على نصاب الثلثـــــــــين ويريدون رئيساً يرفض السوريين لأنهم أعداء والأميركيين لأنهم خذلوهم باتوا اليوم منقسمين على نصاب انتخاب بغية استئثار كل طرف منهم
بالإستحقاق.
وما يقال اليوم عن رئيس الجمهورية سمعه سلفه ما يماثل إن لم يكن أسوأ: سمّى سليمان فرنجيه الجدّ الجميل «الرأس المريض». ودعاه جنبلاط «شاه بعبدا» و«سوموزا»، وعندما خاض معركة إسقاط قصر بعبدا في حرب الجبل عام 1983 قال إنه لن يسمح للصليب الأحمر بإخلاء «جثة أمين الجميل حتى». وطالب بري الوزير في حكومة كرامي بتقصير ولايته ورفض لاحقاً حكومة انتقالية وسحب مع دمشق وزراءها المسلمين قبل أن يقول الأسبوع الفائت ما يبرّر حكومة ثانية تملا الفراغ الدستوري. وتربّص قائد الجيش باقتراب نهاية الولاية للحلول في الرئاسة وعلى الأرض جنوده في مواجهة ميليشيا جعجع في جغرافيا صغيرة بالكاد كانت تتسع لهما. كان رفيق الحريري يضطلع بوساطة مستحيلة بين لبنان وسوريا بعدما نعت وزير الخارجية الأميركي جورج شولتز هذا البلد بـ«الطاعون» ما أن أخلى الأسطول الأميركي الساحل اللبناني. اليوم يرى الأميركيون، ورايس خصوصاً، لبنان مختبر ديموقراطية تشاء واشنطن تعميمها على الجوار العربي الأكثر تواطوءاً في الغالب معها. كانت سوريا كهذه الأيام تريد الإتفاق مع واشنطن على لبنان لإمرار استحقاقه الرئاسي، فرضخ الأميركيون، الشديدو العناد اليوم على رفض تكرار الدرس. وكما وقف الجيش السوري عقبة في طريق حكم الجميل يضطلع سلاح حزب الله في طريق حكومة فؤاد السنيورة. لم يصدر عن مجلس الأمن إبان تلك الولاية أي قرار لمجلس الأمن ما خلا التمديد الدوري للقوة الدولية في الجنوب.
كان على الجميل وهو يدخل ولايته إرساء معادلة مزدوجة في آن واحد: أن يوافق بين نفوذ واشنطن وتدخّل دمشق، ويقتدي بمذهب شقيقه بإدخال لبنان في نظام المصالح الأميركية في المنطقة ويستعين بالأميركيين على إسرائيل ويخرج هذه وسوريا معاً من هذا البلد. أي ما بات في صلب مذهب السنيورة وجنبلاط والزعماء المسيحيين اليوم. خيار كهذا كان آنذاك ــــ ولعله لا يزال ــــ أصعب من أن يقدر عليه رئيس وبلد. كان في ذلك الزمان، في واشنطن وفي بيروت مَن هم في منزلة مماثلة من السفير الأميركي جيفري فيلتمان: فيليب حبيب اللبناني الأصل، والسفيران روبرت ديلون وموريس درايبر، وروبرت مكفرلين سلف الوزيرة كوندوليسا رايس في منصبها السابق مستشاراً للرئيس لشؤون الأمن القومي ودونالد رامسفيلد. اضطلعوا بالأدوار نفسها: حماية شرعية الجميل في مواجهة خصومه القساة والشريرين، كما أخيراً حماية شرعية السنيورة في مواجهة نظر أولئك.
بين مأتم بشير في 15 أيلول وانتخاب أمين في 21 منه، اجتمع الأخير في منزل أحد الأصدقاء في الدوار بمحمد غانم رئيس الإستخبارات العسكرية السورية في لبنان، ناقلاً رسالة من حافظ الأسد. قال الجميل أولاً إنه يرغب في علاقات ودية مع سوريا، ولن يعقد صلحاً منفرداً مع الدولة العبرية لا تشترك فيه دمشق، وأنه سيطلع هذه على كل مراحل تفاوضه مع إسرائيل لإجلاء جيشها من لبنان. ردّ غانم: لم يعد لديّ ما أقوله. كان هذا ما أحمله إليك تماماً. سأنقل الكلام إلى قيادتي ونلتقي ثانية. بعد ساعات اجتمعا. قال غانم للجميل: كلفني الرئيس الأسد أن أقول لك الله يوفقك ونحن معك. سندعمك، وستلمس ذلك من خلال ما سيقوله الرئيس سليمان فرنجيه عندما يؤيدك بعد انتخابك، وسيكون هذا موقفنا منك.
كانت تلك آمال ولاية تحاول، قبل أن تبدأ، إخراج بلد وشعب من تحت رماد احتلال جيوش أجنبية وانقسام وطني وطائفي عميق. ورغم سابقة استقبال رئيس أميركي رئيساً لبنانياً ثلاث مرات في أقل من سنة ونصف سنة سقط لبنان في فخ مناورة إسرائيلية ــــ سورية كانت أقرب إلى خدعة لم تقاومها واشنطن، هي ربط انسحاب الجيش الإسرائيلي بانسحاب الجيش السوري. وهكذا بقي الجيشان محتلين. دخلت إيران، العقيدة والسلاح، على خط المواجهة عبر تنظيم سرّي أضحى عام 1985 حزب الله. لم يغفر له الأميركيون تفجيراً قتل 241 جندياً من المارينز. وها هي واشنطن، بدءاً بالقرار 1559 ثم نفوذها الواسع في قوى 14 آذار التي تجمع أعداء الأمس تنتقم من تنظيم لا تزال تعدّه ـــــ وكثيرون من حلفائها اللبنانيين ـــ إرهابياً وعدواً. تنتقم أيضاً من الأسد الأب بالأسد الإبن. بعدما ضرب على امتداد ثمانينات القرن الفائت هيبتها، سلّمت له بوضع اليد على لبنان، وقبلت أن يسمّي هو الرئيس اللبناني عام 1988. وبعدما ترك المسلمون للجميل مفاوضة إسرائيل لإخراج جيشها ـــــ وهو ما كان طلبه صائب سلام في لقائه الوحيد ببشير ـــ انقلبوا عليه عام 1983 في خطبة المفتي حسن خالد في الملعب البلدي إيذاناً بمرحلة انهيار كل شيء. على نحو مشابه يريد المفتي محمد رشيد قباني استعادة دور مشابه: ضد لحود وحلفائه المسيحيين والشيعة، بعد الجميل حينذاك وحلفائه المسيحيين. على طرف آخر كان حزب الله يقول بجمهورية إسلامية تسقط نظاماً يحكمه
ماروني.
وخلافاً لكميل شمعون وشارل حلو وإميل لحود الذين أتوا بشبه إجماع في حقب مستقرة، كان الإجماع الذي أحاط بانتخاب أمين، أول رئيس ينتمي إلى حزب وقائد ميليشياً، استثنائياً. لم يُعد نفسه، كبشير، للمنصب، لكن كان عليه أن يبرهن نجاح تجربة رئيس حزبي ورئيس إجماع، فأخفق. كان عهده فاتحة الوصول إلى نهاية الحرب بأثمان مكلفة، فترتبت على ذلك سلسلة سوابق: حوار اللبنانيين خارج الأراضي اللبنانية ووضع وثائق إصلاحات دستورية في جنيف ولوزان شارك الخارج في إنجازها، تأليف حكومة وحدة وطنية وزّعت الحكم بين رئيس الجمهورية ومعارضيه الذين حصدوا أكثر من نصفها فشّلت رغم أن السلطة الفعلية في مجلس الوزراء كانت لرئيس الجمهورية الذي هو رئيسه، فراغ دستوري في الرئاسة للمرة الأولى. لم يكن المقصود بحكومة الوحدة كف يد الجميل عن الحكم تحت وطأة انهيار سلطته المركزية فحسب، بل منح معارضيه فيها سلطة تعطيل اتخاذ القرار عندما يختلف الفريقان. هي أيضاً حجة هذه الأيام. لم يكن الجميل يريدها حتى فرضت عليه، ولا تطلبها المعارضة اليوم باسم المشاركة إلا لوقف استئثار الآخر بالحكم.
من حكومة الوحدة الوطنية العشرية دخلت سوريا أكثر من أي وقت مضى معادلة النزاع الداخلي. عوّضت ما حرمها إياه الياس سركيس ثم الجميل مثلث حكم لبنان: رئاسة الجمهورية ومجلس النواب والجيش. لكنها ابتلعت ذلك المثلث ما أن أطلقت يدها، وحدها، في انتخاب الرئيس.
إذا رغب الجميل في الترشح ثانية، سيجد نفسه يتذكر ذلك كله لأن الجميع لا يزال هو نفسه من حوله.