كاتبة المقدمة، البروفيسورة الفرنسية مرسيدس فوليه الباحثة في ‹المركز الوطني للأبحاث العلمية» أوردت أنّها فوجئت على نحو سارّ عندما وقع بين يديها أحد أعداد «مجلة العمارة» التي أسّسها وحررها المهندس سيد كريم عام 1939، لتكون أول مجلة عربية تُعنى بشؤون المعمار. فوجئت البرفيسورة لأنّها لم تعثر على أي إشارة إلى تلك المجلة في المراجع التي كانت تستعين بها عندما كانت تقيم في القاهرة. هذا مثال جديد على حرص حكامنا، قديماً وحديثاً، على محو كل ما يشير إلى إنجازات عهود سابقة لهم (انظر عرضنا لمؤلف روزي بشير
Archive Wars: The Politics of History in Saudi Arabia ــــ الأخبار 9/1/2021) ويمكننا هنا إضافة اهتمام الطغمة العسكرية الحاكمة في مصر بإنشاء العاصمة الإدارية، مع ترجيحي أن الهدف الأساس كان إبعاد تجمّع الحكام عن المناطق السكنية في محاولة لمنع تكرار ثورة 30 حزيران عندما حاصرت الجماهير المقارّ الحكومية وقصور الرئاسة.
كتب المهندس محمد الشاهد: «العاصمة المصرية هي في الأساس مدينة من القرن العشرين. لقد فاق توسّعها وتطورها خلال القرن الماضي وتيرة نموّها خلال الألفية السابقة ونطاقه». لكنه اكتشف أن هذا المشهد من الحداثة كان غائباً تماماً في المراجع ذات الصلة. وأضاف: «بقدر ما لديّ كثير من التقدير العميق للعالم القديم والتراث الإسلامي في الهندسة المعمارية، لكنّ العالم الذي جئت إليه، ومن أنا، يتشكلان بحلول القرن العشرين. لهذا السبب شعرتُ أن مهمتي تكمن في تسجيل هذا العصر وتنظير إنتاجه المعماري، وهذا المؤلف هو إحدى نتائجها، وهو دليل لفن العمارة في المدينة في القرنين العشرين والحادي والعشرين الذي يصنف 226 موقعاً في المناطق المركزية في المدينة. قد يكون هذا المؤلّف شيئاً من البحث الشخصي عن الهوية، لكنه كُتِب دعوةً لإنقاذ تراث معماري معرّض للخطر».
يغطي الكتاب كلّ شيء، من المباني السكنية والمحاكم والمساجد والمتاحف والمطبوعات والفيلات الخاصة، وسكن العمال ومكاتب البنوك والتأمين والكنائس والمدارس والمعابد اليهودية. كما يشمل المباني المهدّمة نداءً للاستيقاظ لما فُقد بالفعل. كما حرص الكاتب على ذكر قوانين حماية التراث، إلا أنها ليست مطبقة دائماً، وتأتي مع بعض الآثار الجانبية الضارة. فأي مبنى يزيد عمره عن مئة عام مؤهل للإدراج في قائمة التراث، لكن في بلد لا يتم فيه تقدير الحداثة، وحيث لا يجلب وجود مبنى سكني خاص أي مكافآت مالية، فإن المئة عام شيء حافز للهدم. إنه حكم إعدام صدر على الحداثة في مصر. والنتيجة هجمة تزداد شراسة مع مرور السنين على المباني التي يمكن اعتبارها في البلدان الأخرى جزءاً من التراث العزيز.
يرى المؤلف أنّ القاهرة أساساً مدينة من القرن العشرين، لكنّ هذا المشهد من الحداثة غاب عن المراجع ذات الصلة
لذلك، لا ينبغي الاستخفاف بعبء اختيار 226 مبنى لتمثيل ما يقرب من 120 عاماً من التطورات المعمارية في واحدة من أكبر مدن العالم وأكثرها كثافةً حضرية. الغرض من هذا الدليل ليس تقديم مسح شامل، بل إبراز عينات تمثيلية من أنحاء المدينة كافة. المباني المدرجة في هذا المؤلف، ليست بالضرورة روائع، وهي فئة غالباً ما تشكل اختيار المباني لمثل هذه الأدلة. في حين أن بعض المعالم هي معالم غير متنازع عليها، فإن معظمها ممتع من الناحية المعمارية لكن ليس طليعياً. يتم إغفال المباني الأخرى بسهولة أو تجاهلها عمداً من المؤرخين والمرشدين السياحيين والخبراء المحليين الذين يخصّصون قيمةً تراثية للمباني على نحو تعسفي. أولاً وقبل أي شيء، يتم تضمين المباني في هذا الدليل كدليل مادي على تطور المدينة. إنها، جزئياً، نتيجة للقرارات الجمالية التي يتخذها المهندسون المعماريون ورعاتهم. لكنها أيضاً نتيجة للظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية والبلدية التي تؤثر في زمان بنائها ومكانه. إن الجودة المعمارية الحالية للمباني المختارة هي نتيجة سنوات عديدة من الرعاية أو الإهمال، أو التعديلات المتتالية أو الصيانة للأصل. أوصاف المبنى مطابقة للتصميم الأصلي، قدر الإمكان، مع ملاحظات تتعلق بالتعديلات أو التغييرات الرئيسة التي حدثت على مرّ السنين. من المهم ملاحظة أنه نظراً إلى الوضع غير المستقر للعديد من المباني المشمولة، فإن كتابة وصف مادي يعتمد فقط على الحاضر ممارسة غير مجدية. يمكن إضافة أرضية جديدة، أو إحاطة الشرفات، أو إعادة تصميم قاعة المدخل، أو طلاء الواجهات بألوان جديدة. بالنسبة إلى القاهريين، فإن قدسية التصميم تتفوّق عليها الاحتياجات العملية والأذواق المتغيرة. لذلك، سيحتاج مستخدم هذا الدليل إلى بذل بعض الجهد لإزالة طبقات الغبار واللافتات وإعادة بناء المظهر الأصلي للمبنى في مخيلته، بمساعدة الصور الأرشيفية المضمنة في المؤلف، كلما أمكن ذلك.
اختيار المباني يتم أيضاً من خلال مصادر الأرشفة والبيانات المتاحة. أما آخر من نشر مسحاً شاملاً للعمارة المصرية في القرن العشرين، فهو توفيق عبد الجواد، المحرر المشارك في «مجلة العمارة». لكن رغم مكانة الكاتب المركزية بين المعماريين في تلك الفترة، إلا أنّ مؤلفه يتضمن أخطاء عديدة في أسماء المباني والمهندسين المعماريين وتواريخ البناء. يعيق الافتقار إلى المصادر الأولية أو الأرشيف أو السلطة المعمارية المركزية البحث والكتابة، ويجعل العديد من الإنشاءات غير مرئية إذا لم تكن هناك رسومات أو صور متوافرة كدليل على وجود مثل هذه المباني على الإطلاق. لم يتم نشر غالبية المباني في هذا العمل من قبل.
ضمّن الكاتب مدخل العمل أقساماً عديدة تشرح تنظيمه وتعلّق على جوانب مهمة من معمار المدينة على النحو الآتي: «اختيار المباني»: الإرث المعماري الحديث والقانون؛ بناء القاهرة الحديثة؛ 1900-1939، 1939-1989، 1989 إلى الآن. كما أثرى مؤلفه بشرح مختلف المصطلحات المعمارية الموظّفة في العمل وعددها 25، وهي تشير إلى طرازات متوافرة في مباني القاهرة، مثل المباني العثمانية، والـ «آرت ديكو»، والامبرالية، ومباني الفن الجديد (آرت نوفو)، والعمارات الجيورجية، والعالمية...
أخيراً، من الضروري الإشارة إلى أن الكاتب أثرى مؤلفه على نحو إبداعي يتمثل في إضافة «رمز الاستجابة السريعة/ QR» الذي يأخذ القارئ إلى خريطة المدينة في «غوغل ايرث» ومواقعها بمجرد النقر على رقم المبنى المراد رؤيته، إضافة إلى معلومات إضافية عنه ومصوّرات ملوّنة، ما يضيف من أهمية هذا المرجع الذي وجب أن يجد مكاناً متقدّماً في مكتبة أيّ مهتم بمصر عموماً وبالقاهرة تحديداً.
Cairo since 1900: An Architectural Guide - The American University in Cairo Press 2020
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا