هذه الوقائع وغيرها الكثير، ولا سيما الحرص الكويتي على عدم التورُّط نهائياً في الأزمة السورية إلّا من بوّابة مساعدة اللاجئين، تسلّط ضوءاً على الانعطافة الكبيرة التي تشهدها الديبلوماسية الكويتية حالياً، تحت القيادة الجديدة للأمير نواف الأحمد الصباح، ووليّ عهده مشعل الأحمد الصباح، والتي ليس لها ما يبرّرها على صعيد مصالح الكويت في الخارج، وإنّما لها الكثير من المبرّرات في السياسة الداخلية الكويتية، والصراع - الهادئ حالياً - بين القيادة السياسية والمعارضة في البلاد. لبنان بالذات يمكن اعتباره «بارومتر» السياسة الخارجية الكويتية، في تَحوُّلها ممّا كانت عليه أيام صباح الأحمد الذي يمكن اعتباره أكبر لاعب فرد على الإطلاق في الجهود الكثيرة لوقْف الحرب الأهلية اللبنانية، مروراً بالدلال الذي حظي به اللبنانيون في الكويت وما زالوا لأسباب كثيرة، والأهمّ إدانة لبنان السريعة للغزو «الصَّدّامي» لهذا البلد والتي كافأهم عليها الكويتيون كثيراً، وبين ما هي عليه اليوم في أيّام الوزير الشاب، أحمد ناصر المحمد الصباح، الذي نَقل إلى لبنان الشروط الاثني عشر السعودية التعجيزية، والتي خيضت حروبٌ لتطبيق بعضها، منها عدوان عام 2006 بهدف فرْض تنفيذ القرار 1559، وفشلت جميعها. لو كان صباح الأحمد حيّاً لما وافق على القيام بهذه المهمّة، ولكان كرّر ما فعله في حالة قطر، لأنه سيعرف بمجرّد قراءة هذه الشروط أنها غير قابلة للتطبيق، كما يعرف ذلك أحمد الناصر، إلّا أن ما هو مختلف بين الماضي والحاضر، هو وضْع الكويت الداخلي وليس مصالحها الخارجية.
ما هو مختلف بين الأمس واليوم في الكويت، هو وضعها الداخلي وليس مصالحها الخارجية
منذ وفاة صباح الأحمد، أقام مشعل الأحمد، الذي يتولّى عملياً إدارة الأمور اليومية للكويت في ظلّ تَكرّر رحلات الأمير نواف للعلاج في الخارج، علاقات طيّبة بمحمد بن سلمان، كونه يحتاج في المرحلة الانتقالية المستمرّة في البلاد في ظلّ مرض نواف، إلى احتضان سعودي، بغضّ النظر عن مَن يحكم السعودية وماذا يريد من هذه الدولة أو تلك. فالرياض، بحُكم الجغرافيا والتداخل القبلي، لها تأثير كبير على مجريات السياسة الكويتية. يكفي القول إن المعارضة الكويتية، «الإخوانية» والسلفية والقبائلية عموماً، وهي أشرس معارضة برلمانية خليجية، وربّما عربية أيضاً، مِطواعة بيد السعودية التي تستطيع لعب ورقتها ضدّ الحُكم الكويتي بسهولة، لكنّها لا تفعل ذلك إلا نادراً، بالنظر إلى أن أسرة آل الصباح تراعي عموماً المصالح السعودية. وقد حصل أن أخرجت المملكة، حين دبّ الخلاف بينها وبين جارتها على منطقة الخفجي الحدودية الغنية بالنفط بُعيد تولّي سلمان العرش، بعض عُتاة المعارضة الكويتية مثل أحمد السعدون على تلفزيون «العربية». الكويت لا تستطيع الوقوف في وجه الرياض إلّا بتوفُّر شرطَين: الأوّل أن يكون الحكم فيها مستقرّاً تماماً، والثاني أن تكون السياسة الخارجية السعودية متهوّرة، كما هي في عهد ابن سلمان، والآن لا يتوفّر إلا الشرط الثاني.
التسلسل الطبيعي للحُكم في الكويت، منذ إنهاء تناوب جناحَي الأحمد والسالم على منصب الأمير، بوفاة سعد العبدالله السالم في كانون الثاني 2006، إثر تولّيه الحُكم لمدّة شهر فقط وهو مريض، وتسلُّم صباح الأحمد مِن بَعده، يَفترض أن ناصر المحمد الأحمد الصباح، والد وزير الخارجية الحالي، هو التالي على خطّ تولّي منصب وليّ العهد، لكنّ الرياض لا تَقبل على الأغلب بذلك، كونها تتّهم الأخير بالقُرب من إيران التي أقام معها صباح الأحمد علاقة جيّدة نسبياً، وهو ما سعى مشعل الأحمد إلى تبديد مخاوف المملكة منه، خصوصاً أن المعارضة الكويتية الشرسة، النائمة نسبياً منذ التسوية التي أعادت إلى البلاد النواب السابقين المُهجَّرين إلى تركيا قبل أشهر، يمكن أن تستفيق في أيّ لحظة، خاصة إذا كانت الرياض تريد ذلك؛ فالمعارضة نفسها تلعب مع الحُكم لعبة الولاء للسعودية. وعلى الأغلب أنه، حتى على المستوى الشخصي، سعى أحمد الناصر للَعب دور وزير الخارجية السعودي في لبنان، وليس الكويتي، فالمطالب سعودية، لا كويتية، والوساطة قامت بطلب سعودي، لا بتطوّع كويتي، لكن بالتأكيد لها مقدّماتها في الموقف الذي اتّخذته الكويت، في شبه تماهٍ مع موقف السعودية، حين سحبت الأخيرة سفيرها من لبنان وطردت السفير اللبناني في الرياض. لكنّ المسألة لا تقتصر على الأشخاص؛ فالكويت، على رغم الحرّيات السياسية والحياة البرلمانية التي تشهدها، وربّما بسببها بالذات، تحتاج إلى الاستناد إلى العُمق السعودي في الأزمات الداخلية، وهي تعيش حالياً أياماً هادئة، كان يمكن أن تكون عاصفة، لولا التوازن الذي أتاح حتى الآن تشكيل حكومة جديدة برئاسة صباح الخالد، مع تراجُع ملحوظ في عدد الاستجوابات للرئيس والوزراء، وهو ما لا يؤمّنه إلّا صمْت المعارضة.