في الواقع، دولرة الرواتب لم تعوّض هذه الخسارة التي لحقت بها خلال سنوات الأزمة الأربع. إلا أنّها قدّمت للموظفين عامل اطمئنان بأنّ قيمة الراتب شبه ثابتة مع انقضاء أيام الشهر. في المقابل، لم تسجّل الزيادة في الأجور باعتبارها زيادات غلاء معيشة، بل أسمتها الحكومة وقوى السلطة «مساعدات اجتماعية» الهدف من إيهام الموظفين أنها تسعى للتخفيف من وطأة الأزمة، بينما هي تسهم في تآكل حقوقهم في تعويض نهاية الخدمة والمعاش التقاعدي. رغم ذلك، فإن هذه «المساعدة» المتكرّرة إلى حدّ التطابق مع الاجتهاد القانوني لتعريف الأجر، لم تكن مستدامة، لأن تسديدها بالدولار ليس مضموناً كل شهر. فمع نهاية كلّ شهر يحبس موظفو ومتقاعدو القطاع العام أنفاسهم في انتظار أمرين. الأول، هل سيتقاضون رواتبهم بالدولار؟ والثاني، على أيّ سعر لمنصة صيرفة سينزل الراتب؟ بالنسبة إلى الموظف، الإيجابية من تكريس هذه السابقة، هو الوصول إلى الدولارات، بغية الحفاظ على قيمة ما تبقى من الراتب، وخاصةً في حال تغيّر سعر الصرف خلال الشهر، للتمكن من دفع الفواتير المدولرة، بالإضافة إلى تحقيق ربح إضافي على الراتب لا تستفيد منه المالية العامة، ولا يدخل في حساباتها.
كانت رواتب القطاع العام تمثّل 22% من نفقات الموازنة وصارت اليوم 9.8%
علماً أنّ سعر الصرف على منصة صيرفة شبه مستقر منذ نهاية نيسان الماضي، وقريب من سعر صرف الدولار في السوق السوداء، فيما الرواتب لا تزال تدفع بالعملة الأجنبية. فدولرة الرواتب آلية روّج لها على أنّها إحدى الحلول لضبط سعر الصرف، علماً أنّ الدولة لا تنتج عملةً صعبةً، أقلّه قبل دخول موازنة عام 2024 حيّز التنفيذ، بل يقوم مصرفها، أي مصرف لبنان، بشراء الدولارات لحسابها من السوق.
ومنذ ولادة منصّة «صيرفة» في حزيران 2021، كان الموظفّ في القطاع العام يحقّق هامشاً على راتبه بقيمة 10 آلاف ليرة من الفرق في سعر صرف الدولار مع بعض التقلّبات، ثم انخفض الهامش إلى 3500 ليرة أخيراً، حتى بات المبلغ الإجمالي المحقق من الفروقات لا يتجاوز 500 ألف ليرة، أي ما يساوي 5.6 دولارات.
بشكل عام، لم يسبق أن قامت الدولة بأمر مماثل لجهة دولرة الأجور، حتى في أيام الانهيار النقدي في الثمانينيات. في تلك الفترة كانت زيادات غلاء المعيشة تتوالى بشكل سنوي، وأحياناً أكثر من مرة في السنة الواحدة، لتعوّض التآكل في القوة الشرائية. أما الآن، فلم يلتفت أحد إلى مخاطر الدولرة الشاملة على ضفتي الأجور بوصفها نفقات، والضرائب بوصفها إيرادات. الدولرة تتطلب آليات تمويل مستدامة بالعملة الأجنبية، وهذا يعني أنه حتى لو تمّ التسعير بالدولار، فستكون هناك حاجة لتدفق النقد الأجنبي (الكاش) بشكل مستمر.
إلا أنّ السؤال عن الجدوى من دفع الرواتب بالعملة الأجنبيّة في حال كان سعر منصة صيرفة قريباً من سعر السوق السوداء يبقى مشروعاً. فالسّياسة النقدية للمصرف المركزي توحي بأنّها تعتمد على تجفيف السوق من الليرة للحفاظ على سعر الصرف، من دون القيام بأي إصلاحات في القطاع المصرفي، أو طرق الدفع في السوق، ولا سيّما أنّ المصارف تحوّلت إلى زومبي لا تقدّم أي خدمة للموظفين في القطاع العام سوى دفع الرواتب آخر كل شهر، وتحصيل عمولات منهم على هذه الخدمة. في المقابل، الدولة لم تقدّم جديداً لحلّ المشكلة الاقتصادية، ودولرة راتب الموظف ما هي سوى إبرة مخدّرة سينتهي مفعولها قريباً كما توحي تصرفات الحاكم الجديد للمركزي وسيم منصوري.