ما يطفو اليوم على السطح ويتقدَّم على غيره، هو الصراع المباشر بين أرمينيا والأرمن من جهة، وبين آذربيجان من جهة أخرى. لكن «الحرب الوطنية» لعام 2020، كما تصفها باكو، انتهت إلى انسحاب كامل للجيش الأرميني من كل الأراضي الآذربيجانية التي كانت سيطرت عليها بعد عام 1991. وفي أيلول 2023، تمكّنت آذربيجان من إحكام سيطرتها على منطقة قره باغ بعدما هجّرت سكّانها الـ120 ألفاً تحت ضغط الخوف من أن يتعرّضوا لإبادة ثانية. وبذلك، انتهى الوجود الأرميني الممتدّ عبر قرون في القوقاز الجنوبي، تماماً كما انتهى في الأناضول الشرقي أو ما يسمّيه الأرمن «أرمينيا الغربية» في عام 1915. وهذا، يُعيد المشهد إلى جوهر المشكلة، وهو مطالبة الأرمن، تركيا، بأن تقبل بثلاثة شروط لتجاوز الخلافات التاريخية وتطبيع الوضع بين الطرفين، وهي: اعتراف تركيا بوقوع إبادة عام 1915، واعترافها بأن السلطة الرسمية في الدولة العثمانية هي التي ارتكبت هذه الإبادة بموجب قرار رسمي، وبالتالي تحمُّل مسؤولية ما يترتّب على ذلك من تعويض الأرمن الذين سقطوا في الإبادة، وإعادة الأراضي التي كان الأرمن يقطنون فيها في شرق تركيا الحالية. أما مسألة آذربيجان وقره باغ، فهي مسائل مستجدّة نشأت نتيجة تفكُّك الاتحاد السوفياتي، لكنها، على ما يبدو، تركت أثرها حتى على الشروط الأرمينية الثلاثة الشهيرة.
انتهى الوجود الأرميني الممتدّ عبر قرون في القوقاز الجنوبي، تماماً كما انتهى في الأناضول الشرقي في عام 1915
على أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ أرمن قره باغ والقوقاز تعرّضوا، في عهد نيكول باشينيان، لكارثة لا تقلّ انعكاساتها عن إبادة عام 1915، وكانت السبب المباشر في أن يقبل رئيس الوزراء بـ«اتفاق ألماتا» حول الحدود الدولية بين أرمينيا وآذربيجان العائدة لعام 1991. ويتضمّن هذا الاتفاق اعترافاً بتبعية منطقة قره باغ، كمنطقة حكم ذاتي، لآذربيجان. أمّا التنازل الثاني، فهو عدم بذل باشينيان أيّ جهد للحفاظ على قرع باغ كمنطقة حكم ذاتي داخل الحدود الآذربيجانية، إذ عندما نشبت حرب 2023، سارع الرجل إلى إعلان استعداده لاستقبال مَن يرغب من الأرمن في قره باغ. وشكّلت حسابات باشينيان المتراخية، كارثة كبرى على الوجود الأرميني في القوقاز الجنوبي؛ فبعد خسارة قره باغ ومحيطها، قد يجد الأرمن أنفسهم أمام معضلة جديدة لم تكن تخطر في بالهم على امتداد العقود الماضية: فإذا كان سركيسيان وافق عام 2009 على لجنة لبحث مسألة الإبادة، فإن باشينيان حسم الجدل، ومن دون حتى لجنة مؤرخين، بأن ما جرى عام 1915 ليس إبادة بل «كارثة كبرى». ففي حوار معه حول كتاب بعنوان «النفسية الاجتماعية لجمهورية أرمينيا» أُعدّ لمدرسة الإعداد الحزبي التابع لحزب «العقد المدني» الذي يترأسه باشينيان، استخدم الأخير في الحوار عبارة «الكارثة الكبرى» في وصف مجازر عام 1915، ما أثار معارضة داخل أرمينيا.
وفقاً لصحيفة «آغوس» الأرمينية الصادرة باللغة التركية في إسطنبول، في عدد 16 نيسان، فإن أندرانيك قوشاريان، عضو حزب «العقد المدني» ورئيس اللجنة الدائمة للدفاع والأمن في البرلمان الأرميني، فإنه: «قبل إعلان الاستقلال (1991)، كان على الكنيسة الأرمينية والأحزاب السياسية الأرمينية ومجموعات الدياسبورا أن تنشغل بهذا الموضوع. وكان يجب تقديم أسماء كل الشهداء وعائلاتهم إلى معهد الإبادة في يريفان». وقال: «بما أن ذلك لم يُنجز، فيجب اليوم ملء هذا الفراغ. وفي الحال المعاكسة، فإن الطرف الآخر (أي تركيا) سيواصل الادّعاء أنه لم تحدث إبادة». ثم أضاف: «لا يوجد فرق بين مصطلحَي الكارثة الكبرى والإبادة». وفي ردّه على قوشاريان، أوضح الناشط الحقوقي الأرميني، أرمان تاتويان، أنه «لا علاقة البتّة بين جرم الإبادة وبين عدد الضحايا. الإبادة ليست في إعدام وجود أو قتل عدد محدّد من البشر، بل هي في أن تعدم من الوجود عن قصد مجموعة من الناس لأسباب عرقية أو دينية أو وطنية».
ومن جهته، ذهب الباحث التركي المعروف في شؤون الأقليات، باسكين أوران، في صحيفة «آغوس» أيضاً، إلى القول إن تعريف المجازر بـ«الكارثة الكبرى» ليس خطأً، وربّما يمكن توصيفها بـ«المذابح» التي قد تنطبق أكثر عليها، فيما رأى الكاتب في صحيفة «قرار» التركية، غالب دالاي، أن «هذا التعريف لا يعكس تغييراً في الموقف الرسمي الأرميني. ولكنه يفتح أمام تغيير المناخ وتلطيف العلاقات بين أرمينيا وتركيا». وقال إن «باشينيان في الأساس يريد تطبيع العلاقات مع آذربيجان، بل قال إنه مستعدّ لدفع الثمن. وهذا موقف مؤيّد للحلّ». ورأى أن «ما يقف وراء هذه الشجاعة لباشينيان، هو التوازنات الجديدة التي نشأت بعد حرب 2020. لقد استعادت آذربيجان أراضيها التي كانت أرمينيا تحتلّها، وهذا شكّل قاعدة موائمة لتصحيح العلاقات بين البلدين. وباشينيان بمواقفه الجديدة ينتظر مقابلاً». ووفقاً للكاتب، فإنه «في حال انخرطت تركيا في دعم التطبيع، فإن مثلّثاً من تركيا وأرمينيا وآذربيجان سيَظهر متصالحاً. ويمكن نتيجة هذا التطوّر أن يتراجع تدريجيّاً النفوذ الروسي في القوقاز. لذا، ليس مستبعداً أن تلجأ روسيا إلى محاولة تفجير هذا المسار ومنعه من التحقُّق».