أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحرب الدائرة في المنطقة إعلاميّة أوّلاً. هناك آلة كونية موظّفة لـ«نصرة» الخير على الشر، الديموقراطية والاعتدال على الديكتاتوريّة والتطرّف. رغم كل ما يُستعمل من أدوات قتل ودمار، وكل ما تتم المتاجرة به من أسلحة يجب تصديرها لـ«الثوّار»، أو انتزاعها من «الإرهابيّين»، يبقى الإعلام هو السلاح الحاسم في المعركة.
العرب اليوم (هكذا يحبّهم الاستعمار) قبائل ومذاهب متناحرة، لا شعوب تطالب وتسعى إلى التقدّم والعدالة والحرية والسيادة الوطنيّة. بين «الهلال الشيعي» و«المارد السنّي»، باتت إسرائيل ملاك الحرية والسلام. هذا الانحطاط العظيم صنيعة الاعلام، وإن وجدت جذوره في الواقع، وزادت من تفاقمه أنظمة الظلم والفساد والتخلّف، وتجّار الدين ووكلاء الرعاية الأجنبيّة.
الحرب في سوريا اليوم حرب تسميات وصياغات مختلفة للكارثة الواحدة. حرب اختراع الروايات والشهود والحقيقة، وتزوير الوقائع. ربّ قائل إن هذا «فنّ» الاعلام في كل الظروف والأماكن، لكننا داخل دوّامة العنف، نتحمّل كإعلاميين مسؤولية كبرى في لعبة الموت والجنون. الاعلام الرسمي كاريكاتوري حكماً، يشبه خطاب النظام واستئثاره بالسلطة والموارد البشريّة، وفكره الأحادي ونظرته الاختزالية للعالم… فماذا عن الاعلام «الثوري» الذي ترعاه أنظمة أوتوقراطية وتيوقراطية؟ ماذا عن إعلام العالم الحرّ في سوريا؟ ألا يذكّر قليلاً بالأنظمة الشمولية؟ فهو يعرف الحقيقة قبل أن يعاينها، ويعيّن المذنب بلا قرائن، ويخضع لأيديولوجيا ترسم سلفاً الحدود بين الخير والشر. من الصعوبة الدفاع عن صحافة الاستبداد والقمع الدموي، لكن إلى أي مدى يختلف أداء الاعلام الأوروبي المهيمن في منطقتنا، عن زميله الرسمي أو ما يعادله في سوريا وقطر والسعودية…؟ كل شيء نسبي طبعاً، وهناك درجات في الأمانة، لكن الانحياز نفسه: فالبروباغندا الغليظة أو التحريض السافر في هذا المقلب، يوازيهما على الضفة الأخرى مهارة أكبر في التلاعب بالرأي العام لتبرير الوصاية الاستعمارية. وصاية لا تقل دموية وظلامية عن الديكتاتوريات العربيّة، التاريخي منها والذي أنبته «الربيع» المجهض. النزاع الحالي في منطقتنا هو على توصيف الواقع وصياغته تبعاً لمصالح عليا، تختلف عن مصلحة عشرات آلاف القتلى، ومئات آلاف المهجّرين والنازحين، وملايين الرجال والنساء الذين يفلت منهم وطنهم يوماً بعد آخر. الانتفاضة ترمي إلى التقدّم، والقضاء على الاستبداد الذي مهّد لانفجار الغضب الشعبي قبل عامين. وإلا لماذا تراها تكون؟ كالعادة الشعب هو الخاسر الوحيد. و«الناس اللي تحت» هم ضحايا الديكتاتوريّة أو الثورة لا فرق… أما الإعلام، فهو شاهد الزور النموذجي على المجزرة.
3 تعليق
التعليقات
-
كاركيتور الاعلام الحكومي أجملكاركيتور الاعلام الحكومي أجمل بكثير من الرعب و الذل و القتل المجاني. يا بيير لم يُذل الشعب السوري كما هو الان لم يُذبح و لم يُسرق الشعب السوري كما هو الان. استاذ بيير المقارنة ظالمة جدا
-
يا ريتك تقرا قبل ما تحكي يايا ريتك تقرا قبل ما تحكي يا بدري ربّ قائل إن هذا «فنّ» الاعلام في كل الظروف والأماكن، لكننا داخل دوّامة العنف، نتحمّل كإعلاميين مسؤولية كبرى في لعبة الموت والجنون. الاعلام الرسمي كاريكاتوري حكماً، يشبه خطاب النظام واستئثاره بالسلطة والموارد البشريّة، وفكره الأحادي ونظرته الاختزالية للعالم… فماذا عن الاعلام «الثوري» الذي ترعاه أنظمة أوتوقراطية وتيوقراطية؟
-
بيار الذي أحبأمام التلفزيون السوري منذ مساء الجمعة، يخالجنا الانطباع بأننا شاهدنا تلك المهزلة من قبل، عشيّة انهيار بن علي ثم مبارك. اللغة الخشبيّة نفسها، و«الدكتور» الضيف يتحدّث عن مؤامرات الغرب، ويذكر عشرات المرّات «الرئيس الخالد» ثم «الرئيس المفدّى». كنا نتمنّى سجالاً مع أحد المعارضين مثلاً، ولو عبر الهاتف. المذيعة تعطي دروساً في الوطنيّة، ما إن تذكر عبارة «مطالب محقّة» حتى تلحقها بـ«مندسّين». تتكلم بنبرة عالية وإيقاع هستيري، مثل حسناوات محطّات الألعاب حين يحرّضنك على الاتصال بأحد الأرقام أسفل الشاشة، لتربح الجائزة الكبرى. أسفل الشاشة يعبر شريط الأخبار: «قناة الإخباريّة السوريّة تتعرّض لتشويش متعمد على نايل سات»، «البوطي (الشيخ الذي يتلقّى عادة إشارات إلهيّة) يحذّر من اتباع أهل الجهالة»، «وزارة الداخليّة السوريّة تشكر الإخوة المواطنين على مشاعرهم الصادقة، وترجوهم عدم الخروج إلى الشارع وإطلاق أبواق السيارات والألعاب الناريّة حفاظاً على راحة المواطنين»، «أبناء الجالية في شرق الساحل الغربي من الولايات المتحدة (أو شيء من هذا القبيل)، يوجّهون تحيّة إلى الإعلام الرسمي، ويشكرونه على نقل الأحداث بشفافيّة». الكاميرات تنقل تظاهرات التأييد للرئيس، والاتصالات الهاتفيّة ترد من كل المناطق، هنا عضو في مجلس الشعب، وهناك عضو في مجلس المحافظة، يكررون الأمثولة: وحدة سوريا في وجه المؤامرة الخارجيّة.