اتاح الخوض في الاطار الشكلي لاستقبال الرئيس الفرنسي الجدل المخفوض الذي رافق زيارة الامين العام للامم المتحدة لبيروت في 24 آذار الفائت، واستقبله ــــ هو الذي ينظر الى كونه على رأس الامم المتحدة أشبه برئيس الرؤساء ــــ موظف كبير هو الامين العام لوزارة الخارجية السفير وفيق رحيمي.
بعض أسباب الإستقبال المتواضع لهولاند عدم إستفزاز المسيحيين
كان دار حوار بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة تمام سلام عشية استقبال بان. اقترح بري ان يحضرا معاً في المطار استقبال بان، فرد سلام بتردد وخشية من ان يُساء تفسير حضورهما "كأن المسلمين في غياب الرئيس المسيحي" يستقبلون الرئيس الفرنسي. اقترح بري مشاركة نائبي رئيسي المجلس والحكومة ووزير الخارجية. كان جواب سلام ان الوزير جبران باسيل لن يحضر احتجاجاً على عدم زيارة بان اياه في قصر بسترس. انتهى الامر برحيمي فحسب.
أثير الامر ذاته مجدداً حيال استقبال هولاند، ويبدو ان الخيار رسا على حضور نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع ووزير الخارجية بذريعة أنقذت الجميع من الإحراج حيال لياقة الاستقبال، هي انها زيارة عمل. ليست زيارة رسمية، وليست حكماً ــــ في غياب رئيس الدولة ــــ زيارة دولة. بذلك يكتفي بري وسلام بمراسم احتفالية لاستقبال الضيف في كل من ساحة النجمة والسرايا.
لا يبدو الاطار الشكلي ذا اهمية لو لم يكن الزائر رئيس دولة عظمى اعتاد اللبنانيون في عهود منصرمة، حتى الأمس القريب في عهدي الرئيسين الياس هراوي وإميل لحود، ان يبصرا أركان الدولة جميعاً في استقباله. لمرات ثلاث على التوالي كان على الرئيس الفرنسي ان يقصد قصر بعبدا وحيداً تقريباً إلا من الموكب.
حضر ساركوزي في المرة الثانية في طريقه من سوريا واسرائيل ومصر والاراضي الفلسطينية، وهولاند في المرة الاولى في طريقه من السعودية، وفي الثانية في طريقه من مصر. بذلك عنى لبنان محطة في جولة وليس هدفاً في ذاته. وهو ما يعبّر عنه مسؤولو السفارة في بيروت بأن الرجل لا يسعه أن يمر بجيران لبنان من دون زيارته، من دون ان يحمل معه أية أفكار جدية أو إقتراحات حلول تقود اللبنانيين الى انتخاب رئيسهم. وهو المبرر الفعلي لعدم تخصيص هذا البلد بزيارة تذكّر بتقاليد تاريخية في علاقات البلدين. بل سيكتفي بحضهم على إجراء الإستحقاق الرئاسي وإنتهاز فرصة انشغال المنطقة بحروبها كي يتسنى للبنانيين وحدهم اختيار رئيسهم بملء إرادتهم.
على ان زيارة هولاند لبيروت تقع في صلب مقاربة الديبلوماسية الفرنسية أزمات المنطقة:
1 ـ بذلت باريس أقصى ما يسعها القيام به منذ الأشهر الأولى للشغور الرئاسي من خلال جهد مثلث: إبان زيارة الرئيس الايراني حسن روحاني للعاصمة الفرنسية واجتماعه بهولاند في كانون الثاني الفائت، زيارة وزير الخارجية لوران فابيوس طهران في تموز 2015، جولة رئيس دائرة الشرق الاوسط وشمال افريقيا في الكي دورسيه فرنسوا جيرو بدءاً من كانون الأول 2014 على طهران والرياض ـ والفاتيكان حتى ـ أكثر من مرة، لمهمة محددة هي المساعدة على حمل اللبنانيين على انتخاب رئيس الدولة. لم يتردد جيرو أيضاً في زيارة بيروت حاملاً نتائج مخيّبة لجولته تلك كي يجتمع بالمسؤولين والزعماء اللبنانيين في محاولة يائسة لفك ارتباط الداخل بالخارج. أخفقت الوساطة الفرنسية في المحاولات الثلاث على التوالي تحت وطأة النزاعات الإقليمية، وأخصها بين ايران والسعودية على ملفات المنطقة، من بينهما لبنان. تنصلت الدولتان من تدخلهما في الإستحقاق، وقالتا إن الإنتخاب شأن اللبنانيين وحدهم.
2 ـ تنظر باريس إلى معالجة المشكلات اللبنانية المتراكمة، وأخصها إنتخاب الرئيس، من ضمن سياستها الرامية إلى تسوية شاملة في المنطقة تكفل مصالحة السعودية وإيران، وتوجد حلولاً سياسية للحرب السورية بدءاً بإخراج الرئيس بشار الأسد من معادلة مستقبل البلاد، ومكافحة الإرهاب بعدما انفجرت شظاياه في أكثر من دولة في القارة العجوز، ناهيك بتحوّل النزوح أداة تشغيلية للإرهاب. على أن باريس لا تجد دورها في التسوية هذه منفرداً، بل جزءاً لا يتجزأ من مجموعة 5+1.
3 ـ من دون ان يحمل إقتراحات أو حلولاً ـ وهو واقع جعبته الفارغة ـ يتوخى هولاند تأكيد أهمية لبنان لدى فرنسا على نحو يجعله يتمسك بأن يكون هذا البلد حاضراً في التسوية الجارية للمنطقة كي لا تنجز تفاهمات دولية في غيابه، أو في أحسن الأحوال تضر بمصالحه. على ان الخطاب المعلن لزيارته المرتقبة يطرح عناوين الإستقرار الداخلي، ودعم الجيش والأجهزة الأمنية في مواجهة الإرهاب، والتداعيات الأمنية والإجتماعية للنزوح السوري الى الداخل ـ وقد بدأت باريس متأخرة تكتشف أخطاره ـ والتنمية. إلا أن ما يتقدم جدول الأعمال هذا الحضّ على عجل على انتخاب رئيس للجمهورية.