مثل فيلم عن حروب القبائل في التاريخ القديم، يتحول مشهد المواجهة بين ثوار القاهرة وعصابات الطاغية، إلى مشهد الغزوات التي تقوم على مبدأ القهر بقوة العدد وقوة العتاد. لم يأبه المخرج السخيف لمشهد ميدان التحرير لفكرة أن الأمر يرتبط بأشياء أخرى، منها الإرادة ومنها الحوافز، ومنها ما هو كامن في قلب المقاتل. فكانت خيبته الكبرى، أن سقط ممثلوه في لحظات، وأن غزوتهم لم تأتِ على نحو ما كان مأمولاً. فقرر الطاغية بعدها أن يحوّل رجال العصابات الى مهمة أخرى، لا تهدف الى كسب الحرب، بل كسب جولة لعلّها تعيد إليه بعض توازنه وتخفف من وطأة الرعب الذي يعيشه وأنصاره، وهو الرعب البادي في العيون، حتى عندما يحاول الوقوف شامخاً كما يحلم، يبدو أمام الكاميرا – المرآة ضعيفاً، مثقلاً بالخوف، مستعطفاً ضحاياه آملاً منهم عفواً خاصاً. إنه يراهن على خيط إنساني رفيع للغاية لطالما ربط بين الجلاد وضحيته. لم يعرف الطاغية أنه أطاح كل شيء. ولم يعد حتى بمقدور أزلامه الإشارة إليه كبيراً، بل صغيراً أصغر من قامته النحيلة.ثمة أشياء لم يكن يتوقعها أحد. لا أبناء الشارع المنتفض دونما توقف، ولا القيادات التي تصوّرت نفسها مثال البطولة وهي تواظب على انتقاد الطاغية، ولا الجمهور المتسمّر أمام الشاشات. ثمة سحر أبيض رفع الستارة عن الطاغية وأزلامه. وثمة انهيار لجدار الخوف، جعل الثوار لا يهابون الجلاد. وفي أيام قليلة، تلاشت من قلوبهم مهابة الرجل ونظامه الأمني. وفي أيام قليلة، زرع الثوار أنفسهم في قلب الطاغية مهابتهم. صار هو الآن متحسساً كل لحظة لجسده، أو لما بقي منه. تراه ينظر في عيون أولاده، يبحث عن لحظة انفعال حتى لا يبدو في أعينهم هم أيضاً، طاغية بلا شفقة وبلا رحمة. هو الآن أقرب الى المجرم الذي لا يفهم سر ابتعاد أهله عنه. هو لا يفهم الآن سر هروب هؤلاء من ساحة المواجهة. ومن بقوا معه، ليسوا سوى قلة، يشعر بعضهم بأن مصيره معلق بحياة الطاغية، ويشعر بعضهم الآخر بأن الثورة سوف تكنس الأوساخ وغبارها أيضاً. ويشعر البقية بأن ما يجري لا يحتمل الحلول الوسط، وليس أمام المجرمين منهم سوى محاولة الصمود.
لم يفهم الطاغية بعد، أن استمرار الثورة وتعاظمها يتيحان لأبنائها غسل ما بقي من أوساخ عليهم. يتيح لهم نفض كل الغبار والآثام، ويزرع فيهم أحلاماً تمتد جذورها إلى الأعماق يوماً بعد يوم. وهي أحلام لا تعيش من دون الآلام والدماء، وهو ما يوفره هذا الغبي الذي لم يعرف بعد أن أسياده تخلوا عنه، وأن لم يعد أحد في العالم يهتم لأمره. حتى إسرائيل، التي تشبه مكاتب قادتها أماكن تقديم العزاء، تفضّل لو يتيح لها رمي الكرة الأخيرة، مثلما تحاول أميركا أن تفعل. هم تخلوا عنه، لكنهم يريدون لخروجه من المسرح أن يكون على شكل مشهد افتتاحي لفصل جديد، من المسرحية نفسها، بلاعب آخر، اسمه عمر سليمان أو أي شيء آخر، لا يهم، لأن المهم هو استمرار العرض.
عصابات الطاغية المنتشرة على الطرقات، تعمل دون توقف على محاولة إفراغ الساحة من الناس. هم يحسَبون أن قطع طريق المطار بحواجز عدة، أو قطع المواصلات داخل العاصمة أو مع المدن الاخرى، يساعدهم على تنفيذ خطتهم. حسبوا أن ضرب الشباب في الساحات سيعيدهم الى منازلهم، وأن أعمال السرقة والنهب ستبقي الآباء والأمهات والأخوات والفتيان في المنازل. هم لم يفهموا بعد، من مشاهد أمس بالتحديد، كيف أقفلت عائلات أبواب المنازل وصار الجميع في الساحات. هم كما الطاغية، لا يعرفون كيف يفيض النيل كل صباح بهذا الكم الهائل من الأحرار. هم لن يعرفوا الحقيقة، إلا لحظة يجدون سيفهم المسلول وقد أغمد في صدورهم.
هي مسألة وقت فقط. والتنافس على قمع الثورة أو سرقة أحلامها، لن يفيد في قلب الصفحة. لن يفيد سوى في حفر المشهد الجديد الذي يطابق القصيدة: قومي يا مصر وشدّي الحيل، كل اللي تتمنّيه عندك!
4 تعليق
التعليقات
-
عن الخروج المشرف !ماذا سيحصل لشاب ذاق المر من بطالة وقمع ومهانة حتى فاض به ووصل إلى أقصى درجات ألتحمل ؟,فخرج مطالبا بالتغيير وإزاحة هذا الجبل من الظلم الجاسم على صدره,واثقا بنبل قضيته,مصمما على بلوغ أهدافه,متسلحا بحبه لوطنه وبسلمية تحركه وبكلمة حق تخرج من أعماق قلبه نداء مدويا,مستعدا للتضحية بروحه من أجل بلده وكرامتها التي داسها برجليه" بطل الضربة الجوية" خلال ثلاثين عاما ؟! ماذا سيحصل له بعد أن واجه الضرب المبرح والرصاص المطاطي والحي والدهس تحت الدواليب ثم واجه المجرمين الهمج الرعاع المطلقين من السجون عليه بكل ما ملكت شمالهم القذرة من سلاح أسود ونار وجمال وبغال؟ ! ماذا سيحصل له بعد أن واجه “إعلاما" و"فنا" و"فقها" لو قدر لأكاذيبهم وتزويرهم أن يتمثل حجما ماديا لملأ مجرة درب التبانة وزاد ؟! فهو بزعمهم يخرب البلاد وينغص عيش العباد (وكأنهم كانوا في الجنة من قبل !) وهو فئة مندسة تارة هو راجح وطورا ايراني وإسرائيلي وفلسطيني ولبناني وأمريكي إجتمعو ضد أب مصر الحنون وقالو له “أف" !! ماذا سيحصل له إذا كسر ظهره من تخاذل جيشه عن نصرته ونفاق وخيانة “شخصيات” وأحزاب ركبت موجته فكان جسمها في ساحة التحرير معه وعيونها وأذانها وقلبها المريض في ساحة البيت الابيض ؟! ماذا سيحصل له إذا رجع إلى بيته خائبا مثقلا بالجراح لم يحقق طلبه الأول والأساسي لكنه موعود بالمن والسلوى من النظام الذي خرج ضده ؟! ماذا سيحصل له إذا لم يفي النظام بما وعد (وهو لن يفي) وإذا لوحق للإنتقام منه (وهو سيلاحق) وعادت حليمة اللئيمة إلى عادتها التي لا تعرف غيرها القديمة ؟! لا نحتاج إلى عبقري ليقول لنا ماذا سيحصل له,الأمل لن يتحول يأسا فقط لكنه سيتحول غلا وكرها وأفكارا هدامة قبل أن يتبلور لشكله النهائي عنفا وقسوة ضد من ظلمه ومن سفه أحلامه ومن طعنه في ظهره,ولن يوقفه عندها أحد ولن ينفع عندها الندم !! هذا الشاب هو مصر كلها,هو الشعب المصري الذي يريد أن يتحرر من ظلم فاحش,من وكيل شيطان بـاغ لكن مشكلته أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد كلب حراسة لا يقل شراسة وبراعة عن الموجود حاليا لحماية ثكنتها العسكرية في فلسطين المحتلة,ولا تريد أيضا أن يتجرأ بقية الشعوب العربية على المطالبة بحريتهم من بقية موميااتها المحنطين على كراسيهم لخدمتها,وهي ستفعل المستحيل من أجل أن تفشل ثورة الشعب المصري لأنها بهذا فقط توقف إنهيار نفوذها وتسلطها على حاضر ومستقبل هذه الأمة . الشباب المصري الحر يخوض حربا ضد أميركا لنيل حريته وحريتنا جميعا,وهو إن تابع نضاله (وهو سيفعل إن شاء الله) لن يوقفه أحد قبل تدمير الإنتقال السلس للسلطة والخروج المشرف للطاغية ! وكل مؤامرات الشيطان الأكبر,وما النصر إلا من عند الله,ينصر من يشاء وهو العزيز القهار.
-
تجربة تونس لاتُكررأعتقد أنه لن يُسمح بتكرار تجربة تونس من ناحية سقوط الرئيس في زخم المظاهرات ومطالبة المتظاهرين بترحيل كامل رجالات الحكم السابق وإيجاد شرعية جديدة....في مصر مبارك قد إنتهى وهو نفسه يعلم ذلك لكن لابد من بقاءه(أو إبقاءه) لفترة حتى يقبل المتظاهرون بمجرد رحيله وإنتهى حيث لايُسمح بأكثر من ذلك في مصر لأنه من غير المسموح المس بمواقف النظام المصري الخارجية والمطالب الداخلية لها سليمان وفتيان المعارضة الدخلاء من أمثال البرادعي وهم لوحدهم قادرين على إفراغ الزخم الثوري للثائرين...فأعتقد من الأفضل تناول إحتمالات مابعد العودة الى المنازل وليس فقط التغني بحالات ثورية دون قيادات...وفي جميع الأحوال بتبديل الراكب يرتاح المركوب قليلا...
-
انتهى مبارك و بقاءه في مصر رغماً عنهانتهى مبارك و بقاءه في مصر رغماً عنه, لان تل ابيب و واشنطن لم تقررا بعد هروبه, و الدليل أن الأفق السياسي لمبارك مقفل لان التوريث سقط و التمديد سقط و باقي له اربع شهور, اما حكومة شعبية و هو الخيار الاقرب للواقع و سيحاكم كمجرم حرب, و اما تنجح امريكيا بتنصيب عمر سليمان الذي سيقدمه قربان لهذه المظاهرات , و بالتالي أفقه السياسي مغلق و هو يعلم ذلك و ينتظر بفارغ الصبر قرار أمريكي يسمح له بالهرب, لان هروبه يحتاج الى قرار أمريكي اسرائيلي
-
مصر الأبيةهكذا نعرف تاريخ مصر وهكذا يريدها كل الشرفاء في العالم العربي.لقد محوتم عار السادات وعار الطاغية الجاثم على قلوبنا وقلوبكم.لكن انتبهوا من سرّاق الثورات.لا ترضوا بأقل من كنس هذا النظام بأكمله وأولهم عمر سليمان.ولا يخدعكم بعض المأجورين(ومنهم ممن يسمّون انفسهم معارضة)فهذا أسوأ من مبارك.ولنتذكر كم طبّلوا وزمّروا ل بن علي عندما أطاح ب حبيب بورقيبة.الله معكم أيّها الشرفاء من أرض عبد الناصر.