قد يكون آخر ما شاهده عمر أميرلاي قبل أن يطفئ عينيه، هو قناة «الجزيرة». بثّ حيّ من ميدان التحرير حيث يمضي شباب مصر في ثورتهم. إنّه الفيلم الذي لطالما انتظره المخرج السوريّ، وها هو الآن أمامه على الشاشة الصغيرة، وبتوقيع سينمائيّين مجهولين. ربما كان عمر أميرلاي قد اطمأنّ إلى أنّ نضاله من أجل الديموقراطيّة في العالم العربي لم يذهب مع الريح، وأنّ خيبات جيله بدأت تثمر أحلاماً تجد طريقها إلى التحقّق في تونس ومصر... وأنّ أيّ بلد عربي، بما في ذلك وطنه سوريا، لا يمكنه أن يستمرّ بالطريقة نفسها.
ربّما أدرك عمر أميرلاي أنّ هناك زمناً قد انتهى، وأنّه بات بإمكانه أن يراقب من بعيد زمناً آخر ليس في الواقع بعيداً منه. فلا أحد يعرف كم من شباب الميدان قد شاهدوا الحوار الأخير بين أميرلاي وسعد الله ونّوس. كم منهم مزّقه صوت قطرات المياه المتقطّعة، وهي تنزل من حنفيّة الانتظار في ذاك الفيلم. كم منهم التقط لحظات السخرية من السلطة والمال حين يجتمعان معاً. كم منهم التمس مرارة «الطوفان»... لكنّ المؤكّد أنّ قلباً ما يجمع بين تلك الأفلام والفيلم المصريّ الطويل. قلب لا يشعر بنبضه إلا من استطاع أن يكون سوريّاً ولبنانيّاً وفلسطينيّاً وعربياً في الآن نفسه، رغم كلّ مآزق الأخوّة وانتكاساتها.
كان ذلك في شهر شباط أيضاً. الصقيع يجتاح مدينة نيويورك. وكنتُ كالآلاف من العرب والأميركيّين أستعدّ للمشاركة في التظاهرات التي جابت معظم مُدن العالم احتجاجاً على الحرب في العراق. وفي ذلك الصباح نفسه، صدرت صحيفة «نيويورك تايمز» بموضوع رئيسيّ عن تلك الحرب والنظرة إليها في الشرق الأوسط. وكان أميرلاي إحدى الشخصيات التي تحدّث إليها كاتب المقال. يومها، صرّح المخرج السوري الراحل بأنّ سقوط تمثال صدّام حسين بعث في قلبه الأمل بزوال الديكتاتوريّات في المنطقة. شعرت عندها بألم عميق. وقرّرت أن أسير في التظاهرة بتصميم أكبر. لكنّ صوت عُمر لم يفارقني حتّى الساعة، مذكّراً إيّاي بأنّ المسألة قد تكون أعقد من الصراخ ضدّ الإمبرياليّة.
بعد سنوات، مازحت عروة، وهو أحد أصدقاء عمر ومن تلامذته، قائلاً: إنّ الحريّة مبالغ في أهميّتها. فابتسم ابتسامة خبث لا تعثر عليه إلا لدى من أدْمَن أفلام أميرلاي، وقال: حقاً، الحريّة مبالغ في أهميّتها، وخصوصاً في أعين المتمتّعين بها.
8 تعليق
التعليقات
-
نأسف لعطل فني يتكرر دائماسنكرمك يا سيدي كما كرمنا نزار قباني من قبلك بعد رحيله عنا هكذا كتب لك القدر ان تنتمي لوطن لا يكتفي بتهجير ابنائه انما لا يكرمهم الا بعد رحيلهم
-
مهما طالت الدكتاتوريات,وظلمتمهما طالت الدكتاتوريات,وظلمت فلا بد ان تسقط ,لأن الشعوب دائما على حق,والشعب لا يرضى الذل!
-
يساريو الستينات والسبعيناتبعد التحية رحم الله عمر اميرلاي الانسان ,اما بعد... لست ناقدا سينمائيالاقيم تجربته في الافلام التسجيلية,لكن نظرة سريعةعلى اعماله تظهر انه أراد القول لناأن كل مانراه ونلمسه ونسمعه ونقرأه له وجهان وملمسان وتفسيران,الخير شر والشر خير, ليس هنالك يقين ,المسلمات والحقائق اكاذيب ,البشر ,الحجر,الكواكب جميعها تتأمر لخدمة الحاكم الظالم.... في الواقع لقد حاول مثقفوا(اليسار) في -الستينيات والسبعينات من القرن الماضي - احتكار الحقيقية والوطنية,وحاولوا -كطليعة ثورية - ان ينصبوا انفسهم أوصياء وأباء للجماهير العربية سيما بعد هزيمة الانظمة القومية في حزيران عام 1967لذلك فإنني اعتقدان تجربة اميرلاي الثقافيةو خاصة في السينما التسجيلية هي جزءمن هذا الشكل النرجسي الابوي الاحتكاري للحقيقةوالوطنية, ملاحظة اخيرة للاستاذ صاغية,أظن ان المرحوم عمر اميرلاي كان يشاهد(العربية) قبل أن يطفىء عينيه وتصعد روحه الىالسماء وأن من صنع ثورتي تونس ومصر هم من كفروا بقدامى الثوار والايدولوجيين و المزاجيين والسياسيين والمنظرين و...
-
إن فيلم أميرلاي عن الحريري منإن فيلم أميرلاي عن الحريري من جهةولامبالاته تجاه الدبابة الأميركية وهي تسقط تمثال الطاغية بعد أن حرثت أرض العراق ومزقت أجساد آلاف البشر في فيلمه الآخر ,لا يعتبر تفصيلا في مسيرة السينمائي المثقف الذي وبالرغم من مستواه الفني العالي لا يمكنه اقناعي كمتلقي بأنه يستطيع أو يحق له أن يجمع بين عملين فنيين متطابقين من حيث المضمون ولكنهمالا يحملان هما مشتركا واحدا من حيث المعايير الانسانية.إن الفرق شاسع بين سعد الله ونوس وما يمثله من قيمة انسانية ثقافية استثنائية في تاريخ المسرح العربي المنحاز الى الناس في مواجهة السلطة,وبين من يمثل أحد أبرز رموز السلطة وآلياتها المالية وامتداداتها النفطية وليبراليتها الاقتصادية القاتلة. نحترم عمر أميرلاي كفنان ولا نثق به كمثقف ,لأن للمثقف دورا علنيا محددا لا يمكن تصغيره الى مجرد مهني لا يهتم الا باداء عمله. مع احترامي الكبير للاستاذ خالد صاغية الذي نادرا ما نختلف معه.
-
زمن الجوائزأميرالاي عمل فلماً عن رفيق الحريري؟ والله هذه معلومة! على كلّ,و بكل أسف يبدو أن العديد من "السينمائيين اليساريين" في سورية ممن يروج لهم في لبنان و بعض الفضائيات الفرنسية مثلاً, قد قرروا منذ سنوات طويلة الصعود النجومي بأي ثمن إما عن طريق تقديم أفلام من زاوية استشراقية تناسب الغرب أو عن طريق أفلام تقرأ مثلاً, واقع الحريات في سورية "طائفياً", فهو طريق أقصر لنيل جوائز " الديموقراطية" من الأقنية الفرنسية أو غيرها. انظروا افلام محمد ملص الأخيرة مثلاً.. الرد على التزييف بتزييف مضاد, و على الطائفية بطائفية مضادة, كان الطريق الأسهل لبعض مثقفي "اليسار السابق" السورييين مؤخراً كي يكرٌسوا "نجوماً" على الشاشات! هناك المئات من المثقفين و مناضلي الشأن العام الشرفاء الذين في الوقت الذي دفعوا و يدفعون فيه أفدح الأثمان داخلياً, رفضوا اللجوء الى المنابر الخارجية, فعوقبوا بالتعتيم و التجاهل من الجميع لأن اللعبة المعتمدة دائما هي: إما مع هؤلاء أو مع أولئك و إلا.. أليس كذلك؟ عسى أن يأتي زمان الخيار الثالث فللكلام بقية!
-
لماذا لا نثبت أخطاء المبدعينالأستاذ خالد صاغية أنامن قراء عمودك اليومي ومن معجبيك. لكن شعورنا بالخسارة لفقدان المبدع أمير أميرلاي الذي يعتير أهم مخرج وثائقي في سورية وربما العالم العربي. لكن ذلك يجب ألا يحجب أنه كان من المهزومين فكريا في الآونة الأخيرة لصالح تغيير الأنظمة الديكتاتوريةعن طريق الدبابة الأميركية.وكان من المروجين له،وربما يأتي فيلمه الطوفان في ذلك السياق. إذ ليس من الأمانة أن تسجل فيلمك وأنت توهم مجموعة من البسطاء في قرية نائية أنك تسجل فيلما توثيقيا لمنجزات البعث وتطلب منهم أن يتكلموا أمام الكاميرا في ظل نظام أمني قمعي،فمن سيجرؤ. كما أن فيلمه التسجيلي عن الراحل رفيق الحريري،كان سقطة كبيرة له ومحاباة لحوت المال والنفوذ الإبداع يجب أن لا يحجب السقوط، وكنت أتمنى أستاذ خالد ألا تحابي ابداعه على حساب سقطته الأخيرة علما أن فيلمه عن الراحل سعد الله ونوس من الأفلام العظيمة الشفافة التي جعلتني أرى المبدع ونوس يعبر عني بصوته. ناشطة سورية مستقلة
-
ولنا في تونس ومصر اسوة حسنة والبوصلة فلسطينقد يكون ذلك التفصيل الذي أضئت عليه يشرح عمر أميرلاي وفلمه الدعائي عن الحريري، اما اذا احسنا النية فان صوت عمر في قلبه قد أضله ولا ريب ان صوت كهذا اضل غيره من "مناضلي الديمقراطية". بعد سنة 2003 سمعت هذا الصوت كثيرا من الديمقراطيين الجدد. المهم سقط التمثال، اما الدبابة الأمريكية فهي تفصيل بالنسبة لسيد السينما التسجيلية ... لا أعرف كيف فاتته وهو المخرج أليس في عمله تدقيقا بالصور اما اننا نرى ما نهوى؟ ما زلت أذكرها، الصورة كانت فصيحة تبّلغ عن ضعفنا ببساطة عن مستقبل لا نملك منه ... سقط الطاغية وتمثاله دون ان يكون لنا فضل في ذلك ... هو العجز، حتى تمثال لم نكن بقادرين على تدميره!!؟ ثم الترقب، ما هو الثمن الذي تريده تلك الدبابة لقاء هذه الخدمة؟؟ ألم يفكر في ذلك الديمقراطي عمر أميرلاي الا يدفع أجرا لمن يعمل عنده ألا ياخذ أجرا على افلامه .. لا ليست سذاجة بل هزيمةالارادة ما يجعل البعض غير قادر على ادراك اننا معركة الاستبداد والاستعمار واحدة ... كفانا مثقفين مهزومين، دعاة "نضال ديمقراطي"، ... ولنا في تونس ومصر اسوة حسنة والبوصلة فلسطين.