القاهرة | وسط الدخان الأسود ورقة محروقة، تمتد إليها أصابع مشتاقة إلى التقاط الأسرار. ماذا كان يحدث خلف أسوار «عاصمة جهنم»؟ جمهور الثورة يقتحم مبنى أمن الدولة المهيب في مدينة نصر. هو فعلاً عاصمة لجهنم متخيّلة، في تصميم على شكل هرم مقلوب، لا يمكن اكتشاف رأسه إلا بعد الدخول في متاهته، متهماً أو ثائراً. المتهم سيختفي، والثائر يمسك ببقايا الورقة المحترقة ليكشف جانباً من دولة الرعب.
الثورة لا تزال تتحرك بتلقائيتها باتجاه أماكن الخطر، ومصائد الحرية، ومنصات إطلاق القهر في «الجو العام». هنا مركز إدارة الحياة في مصر؛ عين كبيرة، أذن ضخمة، عداد الأنفاس، مرصد المشاعر ، ومنظار يخترق الجسم ليصل إلى ما في العقول والقلوب.
من دون شروح كبيرة، سيعرف من يعيش في مصر ماذا يعني عندما تشير في حوار عابر إلى: «الجهاز». إنه اختصار مثير في اسم رسمي: جهاز مباحث أمن الدولة. اختصار يعبّر عن تضخّم في الدور والمكانة وحجم السيطرة، إلى درجة امتّصت كل التفاصيل، والهوامش، والمعاني الأخرى، ليصبح هو «الجهاز» الذي يمنح المعنى للكلمة، ولكيان تضخّم، ومعه أصبح «أمن الدولة» أكبر من الدولة نفسها.
الأمن أصبح الدولة، و«الجهاز» يعمل بانفصال شبه كامل عن دوره وحجمه، إلى درجة غاب معها الدور، فسقطت الدولة التي يحميها. اكتشف «الشعب» هشاشة «الجهاز»، وأن صانع الرعب ليس قوياً ليحمي نظامه إلا بتفاهات من عصور بدائية تكسر الروح بإهانة الذكورة عند رجال يجبرهم الضابط على ارتداء فساتين الرقص الشرقي والدوران في ما يشبه حفلات رقص، يردّد فيها المعتقل: «أنا مرا (امرأة)».
لم يفهم الشاب لماذا عثر في مكتب الضابط على بدلة الرقص. خياله ذهب بعيداً، متصوّراً أنها أدوات حفلات متعة تشحن الوحوش من أجل حفلات التعذيب. لم يفهم أنها أدوات إذلال، بالضبط مثل تصوير اللقاءات الجنسية وتسجيل المكالمات الغرامية. هي أدوات حوّلت الاستخبارات في عهد عبد الناصر إلى ما يسميه السياسي المخضرم، «كباريه سياسي» يقوده عقل مهووس بالألعاب الجنسية. الاستخبارات كانت «جهاز» عبد الناصر، كما أن «أمن الدولة» كان «جهاز» حسني مبارك. ومع اختلاف «الزعيم» عن «الموظف»، ومع تضخّم الاحتياج إلى الأمن من دون سياسة، انتهى كل جهاز إلى المصير نفسه: السقوط المهين.
سلالة واحدة تقريباً تولد من الديكتاتوريات الكبيرة، حين يصبح الشعب هو الهدف، والرأي جريمة تستلزم إنشاء جهاز أمني خاص بها. الاستعمار علّم الديكتاتوريات المحلية أن ترويض الشعوب لا يأتي إلا عبر أجهزة قهر تطارد الرأي وتراقب التمردات الصغيرة «الخارجة عن الصف».
في عام 1913، في ظل الاحتلال الإنكليزي لمصر، أنشئ جهاز للأمن السياسي، لتتبّع الوطنيين والقضاء على مقاومتهم للاحتلال، سمّي «قسم المخصوص». هو أقدم جهاز من نوعه في هذه المنطقة، وضعه الإنكليز تحت إدارة حكمدار القاهرة وقتها سليم زكي، وعمل معه ضباط البوليس المصري، في مهمة واحدة: مطاردة التيارات المطالبة بالاستقلال. وكانت عقيدة أول جهاز أمن سياسي هي: «الاستقلال عن بريطانيا خراب لمصر».
عقيدة عدّت الاستقلال فكرة شريرة، على الأمن مطاردة أصحابها. وتوسّع الكيان الأمني بعد توقيع معاهدة 1936، التي استقلت بها مصر عن بريطانيا فعلاً، ليشمل فرعين في القاهرة والإسكندرية، تحت مسمّىً جديد «القلم السياسي»، ليشمل حماية السرايا، في ظل ارتفاع مدّ التيارات الجديدة: الإخوان والشيوعيون.
«الإخوان» كان خطرهم أقل بالنسبة إلى الملك الشاب (فاروق الأول)، الذي تربّى على أن الشيوعية هي «الشر الكبير». وأضيف إلى القلم السياسي فرع يتبع السرايا ويقوده رئيس البوليس الملكي. وأنشئت إلى جوار مكتب الملك، بحسب أشخاص من الحاشية، حجرة كاملة لكل وثائق الحركة الشيوعيّة المصريّة.
دولة الجنرالات، بعد تموز ١٩٥٢، ورثت «الجهاز» بتركيبته وأدوات عمله، وأعادت تركيبه تحت مسمّىً جديد «المباحث العامة»، لكنه لم يكن فعالاً في حضور الاستخبارات ودورها المحلي في ضبط «الجبهة الداخلية» وتأميم الحياة السياسية، حتى سقطت دولة الاستخبارات بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧.
هنا ولدت مباحث أمن الدولة مع وصول أنور السادات إلى السلطة بمفاهيم تفكيك التنظيم السياسي الواحد، «الاتحاد الاشتراكي»، إلى منابر ثم أحزاب. وأصبح من الضروري تطوير أدوات الضبط السياسي، مع استمرار العقيدة الأمنية: «حماية النظام».
مباحث أمن الدولة فشلت مرات عدة، أولاها في انتفاضة الخبز الشهيرة (١٨ و١٩ كانون الثاني ١٩٧٧) وثانيتها لحظة اغتيال الرئيس وسط الاحتفال بنصر تشرين الأول ١٩٨١.
النقلة الكبيرة للبوليس السياسي كانت في عصر مبارك. تغيّر المسمى، مع اتساع الدور، ليصبح «قطاع مباحث أمن الدولة»، ثم «جهاز أمن الدولة».
الملاحظ هنا أن البوليس السياسي هو مصنع وزراء الداخلية، على مرّ العصور التالية لحكم السادات، وحبيب العادلي لم يكن استثناءً، لكنّه الأكثر اتساقاً مع تطور أسلوب مبارك في الحكم، معتمداً على فكرة «كسر الروح» و«إدارة الأمن للحياة السياسية لا مراقبتها فقط»، لتترسخ دعائم دولة بوليسية، نفذت بكتالوج مصري، توسّع فيه دور الأمن إلى درجة خرج معها عن السيطرة، وقاد النظام كله إلى لحظة السقوط الكبير.
الجهاز كشف عن هشاشة متوحشة، اعتمدت عناصره على نشر الرعب، لا الكفاءة في الأداء، ربما لأن الحماية هنا ظلت تضيق إلى درجة لم يعد «الجهاز» يرى إلا نفسه. بناياته تتضخم، وضباطه يفردون شبكات وجودهم مع المجتمع كله.
الجهاز سيطر على ملعب السياسة في مصر: اللاعبون والحكم والجمهور والاستوديو التحليلي أيضاً. وتحول إلى أداة الحكم الأولى. يمدّ الجهاز خيوطه على نحو معقّد ومركب مع الخصوم المعلنين لنظام مبارك، ومندوبيه في إدارة كل شيء، من الأحزاب المعارضة إلى الجامعات، من المصالح الحكومية إلى برامج «التوك شو». الأصابع موجودة، ووقع أقدام الضابط في أمن الدولة مسموع للجميع.
الثوار اقتحموا بنايات الرعب، ليجدوها فارغة. وحوش الجهاز هربت وتركت خلفها أكواماً من أوراق مفرومة، أسرار وحكايات وتفاصيل تحولت إلى تشكيلات هشّة في أيد ترتعش من الإثارة. بعض المقتحمين زاروا «جهنم» أكثر من مرة، وبعضهم جاء خصوصاً ليبحث عن ملفه الشخصي. الآخرون تجوّلوا وساروا خلف رأس الهرم المقلوب، واكتشفوا زنازين سرية تحت الأرض.
هنا سرّ مبارك، كاملاً. فخامة تشبه عصره، وملاحق حياة كاملة للضباط بأسرة ومستلزمات حياة مرفهة، وجناح إقامة للوزير، لا يخلو من علامات عز، وبينها ثياب حمام رجالية ونسائية أثارت الأسئلة: هل كانت حفلات التعذيب تتزامن مع حفلات أخرى؟ الأساطير تدفقت، وخاصة مع اكتشاف قصر صغير داخل أسوار المبنى الرهيب، يتضمن ملعب تنس واسعاً وحمام سباحة فخماً، قيل إنه مخصص لإقامة رئيس الجهاز. لم يعرف أحد لماذا صُمّم المبنى ليكون أقرب إلى مستعمرة فيها حياة كاملة للضباط. المبنى أضخم من مجرد مكان لوظيفة، إنه فضاء حياة مكتملة، معزولة، لها قوانينها الخاصة.
تجوّل الثوار في المبنى من دون جاذبية، وسط أكوام من ملفات وأوراق تكشف عن خضوع كل مؤسسات الدولة وكياناتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية لقبضة الجهاز، الذي انهار في لحظة أعدّ نفسه للانقضاض على الثورة والالتفاف عليها. بين الأوراق والمستندات المهربة، تقرير رفعه أحد شطّار الجهاز، يقترح الاستجابة إلى طلب التفكيك، صورياً وإعلامياً، على أن يغيّر عنوانه ولافتته ليصبح «جهاز الأمن الداخلي أو الوطني» أو غيرهما من مسميات تحفظ وضع الجهاز في مصر .. جديدة.
العربي بديلاً لأبو الغيط
استجاب رئيس الوزراء المصري الجديد، عصام شرف، لأحد المطالب الرئيسية لشباب ائتلاف الثورة، معلناً اختيار 4 وزراء جدد لحقائب الداخلية والخارجية والعدل والثقافة، على أن يعقد اليوم مؤتمراً صحافياً يعلن فيه تشكيلة الحكومة الجديدة. وسيتولى وزارة الخارجية، بحسب وكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، نبيل العربي (الصورة) خلفاً لأحمد أبو الغيط، واللواء منصور العيسوي حقيبة الداخلية وحقيبة العدل لمحمد عبد العزيز الجندي وعماد أبو غازي لوزارة الثقافة التي ضُمت اليها الآثار، فيما يتولى شريف إسماعيل وزارة البترول. وبتغيير وزراء الداخلية والخارجية والعدل، يكون رئيس الوزراء الجديد قد استجاب لمطلب رئيسي من مطالب الثوار، وهو إبعاد الوزراء القدامى الثلاثة من عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
(أ ف ب)
10 تعليق
التعليقات
-
قل جاء الحق وزهق الباطل، انقل جاء الحق وزهق الباطل، ان الباطل كان زهوقا
-
هل كنا مسّيرين سواء بالتأييد اوالشجب؟غمر الجميع فيضان من الانباء وتتابع الاحداث ولايسطتيع البعض حتى الان التمعن في مجريات الامور فكشف المستور في أمن الدولة المصري و ما تتبعه عن تفجير كنيسة القديسين بتدبيرامن الدولة كان من المفروض ان يقود الى مكان اخر. عندما حدث هذا التفجير ربطه الجميع بحملة على المسيحين الشرقيين في العالم العربي ابتدا من كنيسة النجاة في العراق وخروج بيان باسم القاعدة عن الرد فيما يجري في مصر بحملة في العراق ! ما الرابط بين من قام به في مصر بمن قام به في العراق ولمصلحة من؟ وفي الشأن المصري الداخلي وجب الان التوقف والتمعن في الحملات المسعورة عالاقباط ومارافقه من قضايا متل قضية كاميليا شحادة وغيرها. التمعن بكل ما مضى من احداث ومطالب الاقباط وموقف الحركات الاسلامية . والاهم التفكير بالمشاعرالمرافقة لذلك وما خلفته في نفوس المصريين مسيحين ومسلمين وغيرهم من بلدان المشرق. اليوم وجب التوقف والتساؤل هل كنا مسّيرين سواء بالتأييد اوالشجب؟
-
هل من وفاء؟نريد أن نعرف أين سيغط أبو الغيط؟ فقط لنطئمن على شلته اللبنانية التي ستلتحق به في القريب العاجل. كما أننا ننصحه بأن لا يفكر على الإطلاق أن يغط في لبنان لأنه غير مرحب بهههههه أبدا
-
مع كل الاحترام لشخص عبدمع كل الاحترام لشخص عبد الناصر ودوره الوطني وافكاره الاقتصادية لكن عبدالناصر لا يمكن فصله عن "نظامه " فهو من بدأ بتعذيب المعتقلين السياسيين بل واعدم بعض المفكرين مثل سيد قطب المفكر المسلم ، كما قضي مفكر شيوعي مؤيد لعبد الناصر تحت التعذيب هو شهدي عطية الشافعي .وهو من جعل مخابرات الجيش تسيطر على فكر الوحدة العربية بين مصر وسوريا والنتيجة معروفة.هو من قنن التجسس على اقطاب نظامه والتجسس على المتجسسين لحسابه . لا ننسى ان عبد الناصر هو من جعل السادات نائبه والسادات احضر حسني مبارك . حينما تتم مراجعة تاريخ مصر وثوراتها يجب ان يتم فحص هذا التاريخ بدقة وبدون عواطف. فاهمية التاريخ الدقيق انه يقدم العبرة والدرس حتى لا تتكرر الاخطاء السابقة .
-
يا اخوان المخابرات المصريةيا اخوان المخابرات المصرية لها ما لها و عليها ما عليها كما لعبد الناصر له حسنات و له سيئات , فالمخابرات لها عمليات مشرفة ضد اسرائيل و لها ايضا عمليات مقززة ( مثل زوار الفجر ) ايام الزمن الاسود بتاع صلاح نصر ...
-
يشتم من المقال نفس هجومي علىيشتم من المقال نفس هجومي على زمن قيادة ثورة يوليو لمصر ، فلمصلحة من هذا الهجوم ، وهل نسي الكاتب الدور الكبير للاستخبارات المصرية في مواجهة الموساد الاسرائيلي ... واذا كان من حق الأحرار المطالبة بالديمقراطية والحرية وانتقاد التصرفات القمعية للأجهزة الأمنية الا أنه من الانصاف التفريق بين الأخطاء الداخلية وبين الدور الوطني والقومي للاستخبارات المصرية في زمن القائد الراحل جمال عبد الناصر الذي يرفع ثوار مصر وكل الأحرار صوره في كل تحرك شعبي
-
يا أستاذ وائل يغيب عن وعيكيا أستاذ وائل يغيب عن وعيك الفرق بين القادةالزعماء والحكام الخونة.بعد كل ماحصل للأمة بعد غياب عبد الناصر - ليس الشخص فقط بل المنهج التحرري التنموي المستقل -وبعدكل ما أصبح معروفا عن خيانات وسقوط واستسلام لأعداء الأمة (الكيان الصهيوني وأمريكا )من قبل من أتو بعد عبد الناصر في مصرنا وفي غيرها . لازلنا نذكر أخطاء بعض الأجهزة وننسبها الى الرجل . اتقوا الله في رموز الأمة . وتذكر السجل الحافل والمشرف للمخابرات المصرية في مواجهة أعداء الأمة والذي هو فخر لكل عربي لايزال يؤمن بهويته العربية الأسلامية .
-
سؤال للاستاذ وائل و جريدةسؤال للاستاذ وائل و جريدة الاخبار : هل من الممكن ان تنشرو لنا مضمون عدد من هذه الوثائق المهمة و الخطيرة بحرفيته كما نشرتم وثائق ويكيليس سابقا و شكرا .
-
الاستعمار علّم الديكتاتوريات المحليةمين هيدا الي قال انو في دول من غير قمع حريات ?? جنان الخلد الارضية اللي توعدونا بها ممكن تتحول بسرعة شديدة الى جهنم