يشرح حارس بإنكليزيّته المتعثّرة أن هذه الفجوة في رأسه نتيجة ارتطامه بسقف النفق أثناء هروبه خلال الحرب.
يخترق التاكسي ضاحية سراييفو. أراض زراعية مقسّمة، يتوسط كلاً منها منزل صاحب الأرض. تحيط بالبيوت القرميدية مزروعات بيتية، تماماً كما في بلادنا. فجأة، نصل. تحت ما كان يوماً بيتاً لعائلة أدين كولار، وتحديداً في «أرضية» البيت، يبدأ «نفق الحياة». مدخل السرداب مربع ومضاء لغرض السياحة الحربية. كان فيه بعض السياح حين وصلنا. مقابل 5 ماركات بوسنية، دخلنا
المقابر في سراييفو كالحدائق الأليفة تراها على جوانب الطرقات
لكن كيف كان جنود الأمم المتحدة يتساهلون في نقل البضائع من المطار المحاصر؟ يبتسم حارس قائلاً: «هناك أيضاً جنود أتراك وليس فقط روس وهولنديون». حرب أهلية صامتة داخل قوات الأمم المتحدة؟
لا تزال سراييفو تتذكر ألعابها الشتوية الأولمبية عام 1984. حتى إن شعار تلك الألعاب، وهو ثعلب ضاحك يحمل مزلاجين للتزلج، لا يزال يباع في بعض الدكاكين. لم تفهم سراييفو كيف تكون عاصمة للعالم في لحظة ما، ثم يسمح للحرب الأهلية باجتياحها.
في طريق العودة، يدلّنا حارس على عمارات حديثة العهد تشبه مساكن الدولة بنموذجها الموحّد. يقول إنها بنيت لسكن الرياضيين والعاملين في الألعاب الأولمبية الشتوية. لكنها بعد انتهاء الألعاب، اجتاحها السكان الفقراء وبقوا فيها. مساحة البلاد تسمح بألّا يتراكم الفقراء بعضهم فوق بعض، هنا في هذه الضاحية. هذا الانطباع يقودك إلى تذكّر المقابر. ترى معظمها داخل المدينة على حافة الطرقات. مقابر أليفة من دون أسوار. كأنها كانت خارج المدينة ثم تمدّدت المدينة فصارت في قلبها. لا يخاف البوسنيون من مقابرهم على ما يبدو. تفاجأ بكثرة القديمة منها: بمعظمها قبور إسلامية بشواهد تعلوها عمامة للرجال ومن دون شيء للنساء. قد يكون من الأكثر صواباً القول إن البوسنيين القدامى لم يخافوا من الموت. ربما كان هذا تأثيراً جانبياً لإيمانهم وتأثرهم أيام الحكم العثماني بالحركة الصوفية.
تتذكر رواية صديقة عن شاب تعرّفت إليه في كونيا، مدينة المتصوّف جلال الدين الرومي في تركيا. روى لها الشاب الذي كان وريث طريقة صوفية، كيف كان عليه النوم، كجزء من تدريبه، في قبر لليلة واحدة من أجل نزع خوفه من الموت. المقابر هنا، في سراييفو، كالحدائق الأليفة، تراها بين فينة وفينة على جوانب الطرقات العامة، يمرّ قربها الترامواي، والسيارات والناس. هنا في وسط سراييفو، ومقابل «مول» ضخم، تتناثر شواهد القبور على مرجة من العشب تتخللها شجرات باسقة. تذكّرك أشجار البوسنة بمعنى كلمة باسقة، الذي كنت قد نسيته لقلة الاستعمال. تماماً كما تدّعي أنك اكتشفت معنى كلمة «همى» في قصيدة «جادك الغيث» حين رأيت مطر البوسنة الخفيف كالندى. متنزّهون يجلسون على مقاعد وسط المرجة. ربما لا يرغبون في إنفاق 6 ماركات بوسنية ثمناً لمجرد فنجان قهوة في مقهى المول المقابل. ترتاح الزميلة إلى فكرة المقابر الأليفة، وتقول إنها ستوصي بأن تدفن هنا، «لأتسلى بمرور العابرين». ثم تضحك للفكرة.
لا يزال يحزّ في قلب سراييفو كيف قصف الصرب المقابر العثمانية. «أي شيء له هوية ثقافية إسلامية قصفه الصرب»، يقول مدير دار الوثائق التاريخية سيد علي غوشيتش. ويعدّ على أصابعه: «دار الاستشراق المشهورة في أوروبا بمخطوطاتها النادرة، وبالذات التي تعود إلى الحقبة العثمانية، المكتبة القومية التي حرقت ولم ترمم، كانت أجمل مبنى في سراييفو. بنتها النمسا بالأسلوب الأندلسي لمراضاة البوسنيين بعد احتلالهم عام 1878. مركز الوثائق والمخطوطات التاريخية. لهذا أيضاً قصفوا الجوامع، وحتى المقابر التاريخية. كانوا يدمّرون التاريخ».
لا يزال أهل البلاد يذكرون زيارة مفتي القدس قبل النكبة
وبالحديث عن النكبة، لا يزال أهل البلاد يذكرون زيارة مفتي القدس بداية الحرب العالمية الثانية وتأثر بعض البوسنيين المسلمين به، ما جعلهم يلتحقون بهتلر. تورّط بعضهم بجرائم النازيين، فهاجروا ما إن انتصر الحلفاء. للمرة الأولى تفهم أن كنية «بوشناق» تعني ترجمة «بوسنياك» أي البوسني. غيرهم أيضاً هاجر بتأثير «بعض الأئمة الأغبياء الذين أفتوا بوجوب الهجرة إن كان الحاكم من الكفرة»، كما قال عدنان. منهم من لا يزال في بلاد الشام، ومنهم في تونس الخضراء. «لطفي بوشناق؟ المغني؟ بالطبع نعرفه، جاء منذ سنوات وعمل دويتو مع مطرب محلي». يقول عاطف.
في شارع الفنون المزدحم بواجهات من أشغال يدوية موجعة بجمالها الدقيق، يعود المطر الخفيف إلى الهطول. تنساب موسيقى حزينة من محل مجوهرات مزيفة. صوت رقيق كالندى يغني. «المغنية؟ هذه أميرة» تقول لك البائعة الأنيقة، فيروزهم الصغيرة. صحيح، أمير كوستاريكا المخرج من هنا، لكنهم لا يحبونه. يقولون إنه نسي أصله وغيّر دينه. تتذكر مواقفه الموالية للصرب خلال الحرب. يبدو أنني سأغرق قريباً في تفاصيل الكراهية الأهلية التي لا أحبها. فلنتوقف هنا.
تضامن عفوي