بترحيل الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني الحامل للجنسية البلغارية إلى صوفيا أمس، يسدل الستار على القضية التي حركت الغرب على مدى تسع سنوات باتجاه ليبيا، التي خرجت من القضية بآفاق دبلوماسية مع الاتحاد الأوروبي، وحتى الولايات المتحدة، بعد أعوام من القطيعة
مثّلت القضية، التي باتت تعرف باسم «ممرضات الإيدز»، نقطة خلاف وتفاوض بين الغرب وليبيا، مذ بدأت عام 1998 بتوجيه القضاء الليبي اتّهامات إلى الممرّضات الخمس والطبيب الفلسطيني بحقن 426 طفلاً ليبياً عمداً بالفيروس المسبّب للإيدز في مستشفى الفاتح في بنغازي.
قضية مرّت بسلسلة من المراحل، وخرجت المحاكم بأكثر من حكم إعدام، قبل الوصول إلى الحكم الأخير بخفض العقوبة إلى السجن المؤبّد، والذي كان باب «التسوية» بناءً على اتفاقية لترحيل المحكومين بين ليبيا وبلغاريا موقّعة عام 1984.
الحكم الأول على الممرضات صدر عام 2004 بالإعدام رمياً بالرصاص. لكن المحكمة العليا ألغته وأمرت بإعادة المحاكمة، التي انتهت إلى حكم مشابه صدر عام 2007، استأنفته الممرضات أمام المحكمة العليا، التي خفضته إلى السجن المؤبّد.
القضية من البداية
اعترف المتهمون، في بداية القضية، بـ«الجريمة»، لكنهم عادوا ودفعوا ببراءتهم، متهمين السلطات الأمنية بتعذيبهم للحصول على الاعتراف. ورفعوا دعوى على عناصر في الشرطة، التي برّأتها إحدى المحاكم من هذه التهم في حزيران 2005، لكنها برأت في الوقت نفسه الممرضات من تهمة التلفيق التي رفعها رجال الشرطة.
خلال المحاكمة، وما رافقها من منابر سياسية وحملات توظيفية في سياق العلاقة بين الغرب وليبيا، قدم الطرفان ما لديهما من ملفات ودلائل تثبت أو تنفي قضية حقن الأطفال بفيروس الإيدز.
مؤامرة إسرائيلية ــ أميركية
رأى القضاء والحكومة الليبيان أنّ «الموساد» الإسرائيلي والاستخبارات الأميركية وراء عملية حقن الأطفال بفيروس نقص المناعة المكتسبة بهدف إثارة المشاكل في ليبيا عن طريق طاقم بلغاري وطالب فلسطيني.
وأشار الزعيم الليبي معمر القذافي، في مؤتمر الإيذر في نيجيريا عام 2001، إلى أنّ الفيروس أُعدّ في مختبرات وكالة الاستخبارات الأميركية «سي آي إيه»، وأنّ حقن الأطفال جاء بعد تعليمات أميركية.
وبعد إجراء التحقيقات، تبيّن للقضاء الليبي أنّ المتهمين مدانون. وعُدّت الممرضة كريستينا فالشيفا الرأس المدبّر للجريمة، بعد العثور على أكياس من الدم الملوّث في منزلها في ليبيا.
وألّفت السلطات الليبية لجنة ضمّت مكتشف فيروس الإيدز العالم الفرنسي ليوك مونتاييه والخبير البروفيسور فيتوريو كوليتسي، التابعين لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونسكو»، اللذين كلّفا بوضع تقرير حول أسباب انتقال عدوى مرض الإيدز إلى أطفال بنغازي.
وجاء في تقرير مونتاييه «أنّ سبب التلوّث هو فقر الإجراءات الصحية في مستشفى بنغازي حيث كان يعمل المتهمون، وأن المشكلة بدأت من عام 1997 أي قبل وجود المتهمين في المستشفى».
لكن المحكمة لم تأخذ بتقرير مونتاييه وألّفت لجنة طبية من أطباء ليبيين دحضوا تهم الإهمال في إدارة المستشفى، وأكّدوا عدم وجود هذا المرض نهائياً في ليبيا وعدم احتياج المستشفى لأي معدات طبية، معتبرين أن المستشفى هو أحد المستشفيات النموذجية في العالموأشار القضاء الليبي إلى وجود أدلة علمية صادرة عن أوروبيين تدلّ على أن الفيروس، الذي حقن به الأطفال، هو فيروس معدّل وراثياً ولم يسبق أن سجل تفشيه بين البشر، وهذا ما ذكره البروفيسور الإيطالي أوبالدو فيسكو كومالديني وفريقه العلمي.
كذلك استندت ليبيا إلى دراسات للعالمين الأميركيين، عمر بغسرا والبروفيسور بلارد من جامعة كالفن، تقول إن الفيروس الذي زرع في دماء أطفال بنغازي لا وجود له إلا في بعض المختبرات العالمية المختصة، والتي تشتغل على تجارب إنتاج مصل مضاد لمرض الإيدز.
«كبش محرقة»
في مقابل التهم والمستندات الليبية، دفع المتهمون ببراءتهم، وادّعوا أنّ هذه القضية من تدبير الاستخبارات الليبية، خطّط لها 25 ضابطاً يمثّلون أحد أجهزة الدولة الليبية. وأشارت الممرضات الخمس والطبيب إلى أنه تمّ تقديمهم «كبش محرقة» إلى محكمة الشعب ليحاكموا بتهمة التآمر على أمن الدولة الليبية، ولتغطية الإهمال في المستشفيات الليبية.
واستند المتهمون إلى تقرير مونتاييه لإثبات براءتهم، وأشاروا إلى وجود بحوث ودراسات علمية متخصصة تثبت أن انتشار فيروس الإيدز كان عبر الأدوات والمعدّات الطبية التي تستخدم بشكل غير صحيح مثل الحقن العلاجية التي يعاد استخدامها، فضلاً عن عدم التعقيم والتطهير السيئ، وأن هناك حالات مماثلة لهذه الظاهرة حصلت في روسيا ورومانيا.
كذلك أتت إفادة مدير مستشفى بنغازي عطية الجعي لتؤكّد ما قاله الممرضات وتقرير مونتاييه، حين أقرّ بأن «الإمكانات القليلة في المستشفى تضطر إلى استخدام الحقن نفسها لأكثر من مريض، إضافة إلى وجود حالات إيدز داخل المستشفى».
وقالت تقارير إن حالات الإصابة بالفيروس كانت أصلاً قبل وجود الطبيب الفلسطيني والطاقم البلغاري، إذ تمّ تسجيل حالات إصابة منذ عام 1990 وازدياد في عدد الحالات في عام 1998، إضافة إلى ما ذكر في التحقيقات عن وجود ممرّضة باكستانية تعمل في المستشفى وتحمل المرض.
كذلك استند المتهمون إلى تقارير طبية تفيد بأنّ هناك عشرات الأمهات حاملات للفيروس من دون إصابة ازواجهن أو اطفالهن، الأمر الذي أدى إلى انتشار المرض بطرق أخرى مثل تلّوث المعدات الطبية. إضافة إلى وقائع وتقارير متضاربة تتعلق بتاريخ دخول الأطفال إلى المستشفى وتاريخ تشخيص حالتهم، وهو ما يطرح تساؤلاً عن موعد حقن الأطفال بالفيروس.
وكشفت إفادات الشهود في القضية أنه تمّ ضبط مستحضرات طبية وأدوية غير صالحة للاستعمال في مستشفى بنغازي، كذلك مرض فيروس نقص المناعة ليس غريباً على المستشفيات الليبية، بل هو منتشر في مستشفيات أخرى (ترهونة ومسلاتة وطرابلس).
وفي بيان أصدرته بعد حكم الإعدام، ادّعت عائلة الطبيب الفلسطيني أشرف الحجوج أنّ القاضي ابراهيم الاجنف رفض تلبية طلبات محامي الدفاع عرض أشرف والطاقم البلغاري على الطبّ الشرعي ليثبت وجود التعذيب من عدمه. كذلك رفض القاضي الاستماع إلى شهود النفي والإثبات ومواجهتهم بالمتهمين.
الموقف الأوروبي
حاول الأوروبيون منذ بداية الأزمة إطلاق المتهمين، وعرضوا تقديم رعاية طبيّة للاطفال، إلا أنهم رفضوا بدايةً تعويض العائلات، على اعتبار أن هذا الأمر سيمثّل اعترافاً ضمنياً بالجريمة.
وأنكرت بلغاريا ما نسب إلى مواطناتها واعترضت على حكم الإعدام الذي صدر في حقّهنّ في 2004، متمسكّة بالرواية التي تقول إنّ «الحقيقة تتمثّل في إهمال ناتج من التهاون في المقاييس الليبية للسلامة الطّبية».
بداية الصفقة
منذ بداية الأزمة، رأت أوساط أوروبية أنّ القضية تستخدم ورقة ضغط من الجانب الليبي للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية على الصعيد الدولي.
وأولى بوادر الصفقة جاءت عام 2005، عندما توصل الليبيون والأوروبيون إلى اتفاق أولي في شأن العلاج والرعاية الطبية للأطفال، فأنشئ صندوق مشترك بين طرابلس وصوفيا لرعاية المصابين.
وتلاحقت الاتصالات وصولاً إلى الاتفاق على تعويضات، بلغت حدود مليون دولار للطفل الواحد، بعدما كانت ليبيا قد طالبت بعشرة ملايين دولار للطفل، وهو رقم مماثل للتعويض الذي دفعته لضحايا طائرة «بانام» الأميركية التي تم تفجيرها فوق منطقة لوكربي الاسكتلندية عام 1988.
الاتفاق على التعويضات كان مجرّد مقدمة لتخفيف حكم الإعدام على الممرضات والطبيب الفلسطيني إلى المؤبد. إلا أن ترحيلهم الذي تمّ أمس، حصل في مقابل صفقة أخرى، من أبرز ملامحها مطالبة ليبيا بـ«التطبيع الكامل» مع أوروبا، التي تجاوب معها الاتحاد الأوروبي، في خطوة قد تؤدي إلى توسيع دائرة فك العزلة الدولية التي كانت مفروضة على ليبيا، ومقدمة لدور أكبر على الساحة الأفريقية خصوصاً، بمباركة أوروبية ـــــ أميركية.
الطبيب والممرضات
تجربة المصراتي
نظرية المؤامرة، التي استندت إليها ليبيا لاتهام «الموساد» الإسرائيلي والاستخبارات الأميركية، لها ما يبررها من تجارب سابقة. ففي عام 1991، كشف الأمن المصري قيام عائلة مصراتي اليهودية الليبية الأصل، التي تحمل جنسية إسرائيلية، بنشر فيروس الإيدز في مصر بأوامر من «الموساد» عبر المدعوة فائقة مصراتي التي كانت تحمل الفيروس.
وقد استطاعت فائقة المصراتي بالفعل أن تصل إلى رجال أعمال وشخصيات سياسية بارزة يُعتقد أنهم حملوا الفيروس من خلالها.
وحاولت الحكومة المصرية ترحيل المتهمين بصمت، لكنّ إسرائيل أشاعت الخبر وأصبحت القضية قضية رأي عام، قبل أن تعيد مصر عائلة المصراتي إلى إسرائيل خلال عملية تبادل عام 1994.