محا الألمان أثناء الحرب العالمية، مكتبة لوفين في بلجيكا
بتفكّك يوغسلافيا وتخليها عن الشيوعية، حدثت فظائع لا تغتفر، محمولة على رافعة الجنون القومي والعنصرية والتطرّف، خصوصاً لدى الصرب والكروات، فكانت المعالم الثقافية مثل الكنائس والمكتبات أهدافاً عسكرية، ومحاولة وحشية لنزع الهوية عن المكان. دمّر الصرب نحو 210 مكتبات كرواتية، و370 متحفاً ودار محفوظات، وقصف الجيش الصربي مدناً أثرية، وأُضرمت النيران في «مكتبة تاون ميوزيام»، وقلعة «إلتس» القديمة، وبلغ العنف أقصاه ضد البوسنة ضمن خطة محكمة لمحو الثقافة الإسلامية، وإعدام صفوة المفكرين فيها، ودُمرت المقابر والأضرحة والمكتبة الوطنية، والمعهد الشرقي في سراييفو الذي يضم مخطوطات إسلامية ووثائق عثمانية وصكوكاً ملكية: «كان هناك أسلوب حياة كامل، وحضارة بكاملها في قلب أوروبا يخضعان لبرنامج إبادة» تقول الباحثة.
أثناء غزو العراق للكويت (1991)، استُخدمت المكتبات ومراكز المعلومات والمدارس كمراكز قيادة ومستودعات ذخيرة، ودُمّر نحو 43 في المئة من مخزون الكتب في المكتبات المدرسية، وأتلفت آلاف الكتب، كما شُحنت كتب أخرى إلى بغداد، واستخدم جزء منها كوقود للطهي، وأُحرق المتحف الكويت بعد نهب محتوياته. وتوثّق ربيكا نوث وقائع الجرائم الثقافية التي ارتكبها صدام حسين في العراق في ظل ايديولوجيا بعثية استبدادية «كانت وهمية وخيالية ومتلوّنة ونفعية»، أودت بحياة مئات المفكرين والأكاديميين الذين لم يمتثلوا للفكر البعثي، وفي الوقت نفسه طُهرت مجموعات من الكتب التي تحمل وجهات نظر مخالفة، ورُصد تمويل سخي للمؤرخين الذين انخرطوا في كتابة نصوص داعمة لأفكار صدّام حسين حيال صورة العراق الجديد: مزيج من الاعتزاز بالحضارة البابلية والفولكلور الشعبي المعاصر.
من جهتها، أفرزت «الثورة الثقافية الصينية» كوارث لا تحصى. بعد استيلاء الشيوعيين على السلطة (1949)، صارت إبادة الكتب حملة داخلية ومتواصلة، يجيزها القادة الذين طالبوا بأن تمتثل كتب الصين ومفكروها وتقاليدها الثقافية للآراء القويمة للحزب وزعيمه ماو تسي تونغ «موجِّه الدفة العظيم» وصار «الكتاب الأحمر الصغير» نصّاً مقدّساً يدرسه الشعب بأكمله، ويحمله كأنه تميمة. هكذا طُهرت المكتبات من «المنشورات الرجعية والفاحشة والعبثية»، فلجأ الكتّاب الصينيون إلى «التملّص الذهني»، أو إلى الصمت، وشُنَّت أقسى الحملات ضد المفكرين بتهمة الرجعية (أُعدم نحو 46 ألف مفكّر)، وأُحرقت الكتب والصور السيئة «وفي النهاية أشعل الحرس الأحمر النيران في الكتب التي شكّلت جبلاً صغيراً». يروي أحد الكتّاب الصينيين المجهولين ذكرياته قائلاً: «أحرقتُ جميع كتبي ومخطوطاتي، لكن الكتاب الذي أعمل على إنجازه، صار حياتي، فكيف كان لي أن أدعه يضيع؟ وعلى الرغم من أنهم أحرقوا مكتبتي وأوراقي، فإنهم لم يحرقوا ذاكرتي، فبدأت أكتب سرّاً، مستدعياً الكلمات التي اخترتها من قبل، وخبأت الصفحات في لحافي».
نطوي صفحات هذا الكتاب المفزع، ونحن نتخيّل حريقاً هائلاً يقترب نحونا تقوده محاكم تفتيش جديدة، لكننا سنتساءل: لماذا تجاهلت ربيكا نوث ما فعلته إسرائيل بالتراث الثقافي الفلسطيني طوال نصف قرن، ألم يكن نوعاً من الإبادة النموذجية؟ لعله الفصل الممحو عمداً من هذا الكتاب.