قبل أن نلج إلى الآليات النقدية التي استخدمها صفوت في دراسته المتصدرة لكتاب «فصل المقال»، علينا أن نحصل على فسحة قصيرة عبر المشروع العلماني العربي. وللدقة، من الواجب أن نتحدث عن مشروعين، أحدهما فكري وهو ما كنا في صدده حالاً، والآخر سياسي. وللدهشة المفرطة، أنّ هذا الأخير بدا دوماً كأنه آتٍ من المستقبل، والأول الذي هو صنيعة المفكرين العرب مرتحل إلينا عبر الماضي. هل يبعث ذلك على الضحك؟ نعم، لكنها الحقيقة، لدينا على الأقل مشروع علمنة تونس في بدايات القرن العشرين ــــ وهو مختلف تماماً عما يحدث الآن في تونس ــــ وهو سياسي بالدرجة الأولى آتٍ من السلطة من أعلى. هكذا سارت اللعبة: اخلعوا الحجاب، علمنوا المناهج الدراسية، علمنوا الدستور، تخلوا عن وعن وعن.. هكذا ككائن فضائي آتٍ من المستقبل ليملي قوانينه الجديدة على أرض الحاضر من دون الأخذ في الاعتبار ما هو هذا الحاضر وكيف يمكن تغييره بالتدريج.
أما المشروع الفكري الذي نحن في صدده الآن، فقد اتبع طريقاً من اثنين. في الأول، استحضر نماذج كانت تبدوا أكثر وعياً وتفتحاً في التاريخ الإسلامي القديم ــ طبعاً بالنسبة إلى العصر الراهن ـــ كنموذجي المعتزلة وابن رشد في محاولة دهية للترويج للمشروع العلماني. بعبارة أخرى: انظروا أيها العُرْب إلى تاريخكم فأنتم آباء العلمانية، وهي ليست غريبة عنكم بأي حالٍ، وهذا ما أشار إليه صفوت نفسه. أما عن الطريقة الأخرى فكانت عبر استحضار التاريخ الغائر في القدم في ما قبل الحقبة الإسلامية كاستحضار الحضارة الفرعونية في مصر، الفينيقية في سوريا، وربما البابلية في العراق. ونحن أبناء هذه البلدان طبقاً لهذا المشروع عُجْم لا عرب، أبناء حضارات وثقافات أكثر رفعة وتحضراً وانفتاحاً من الحضارة العربية. وبخلاف أن علمانّيي تحتمس ونبوخذ نصر لم يوضحوا لنا كيف تكون هذه الثقافات السامية بدقة كيما نتمثلها في القرن الحادي والعشرين كبديل عن ثقافة العرب البالية، فهم بالإضافة رازحون لا محالة في فخ استحضار الماضي الأسحق من السحيق. الخلاصة، سواء هبطت علينا العلمانية من المستقبل بقرارٍ سياسي، أو تنفسناها من حفرة غائرة في الماضي، فنحن مذنبون بنسياننا لهذا الحاضر، بنسيان كيف نفكر فيه، وكيف نحلله، لنخرج بمشروع صلد مبني على وقائع لا على استدعاءات وترويجات أثبتت فشلها.
على خلفية الكتاب السابق لصفوت «السلطة والمصلحة.. استراتيجيات التفكيك والخطاب العربي» (هيئة الكتاب 2017) يواصل صفوت استخدامه لاستراتيجيات التفكيك المستمدة رأساً من الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. وربما لولا هذا الكتاب الذي يضع صاحبه ضمن أسماء جد قليلة من الفاهمين العرب للتفكيك، لشككنا كقراء في جدارته بالقيام بهذه المهمة. لذلك وللأسباب السابقة سيبدو تفكيك خطاب ابن رشد ذا جدوى كبيرة.
نقل احتكار تفسير النص الشرعي من قبضة الفقيه إلى قبضة الفيلسوف
من خلال خطاب قاضي قضاة قرطبة نفسه في مقاله العلامة «فصل المقال»، يثبت صفوت أن ابن رشد الفيلسوف الأبرز لم يكن علمانياً ولا مبشراً بفصل الدين عن السياسة بقدر ما كان فقيهاً مجتهداً يسعى إلى ردم الهوة بين الشريعة والاجتهاد الإنساني المتمثل خصوصاً في الفلسفة اليونانية. تحمد له محاولاته في إثبات أن النص الشرعي له أوجه عدة ويمكن فهمه على أكثر من نحو. يحمد له أيضاً كونه الضد من احتكار تفسير النص لطائفة بعينها. لكنه –ابن رشد- من خلال آليات التفكيك ربما سيظهر أكثر فأكثر لا الضد من الاحتكار ولا هو الضد من الكهنوت، بل أكثر من ذلك، سيخلع الوليد رداء المفكر لتظهر لنا من تحته عباءة الكاهن. نعم، الكاهن الذي نقل احتكار تفسير النص الشرعي من قبضة الفقيه إلى قبضة الفيلسوف، ونحن نعلم جميعاً ما معنى الكهنوت بالنسبة للعلمانية.
يعمد صفوت إلى استدعاء مفهوم الشبحية الخاص بدريدا لتوظيفه هنا على كتاب «فصل المقال». هل كان هناك شبح خفي يسيطر على ذهن ابن رشد أثناء كتابته لـ «فصل المقال»؟ الإجابة التي تأتينا بها هذه الدراسة هي أن الشبح هو بذاته الإمام أبو حامد الغزالي عدو أبي الوليد اللدود.
الغزالي الذي أفرد كتاباً لتكفير الفلاسفة ومن ثم انبرى ابن رشد للتصدي له في كتاب «تهافت التهافت»، هو نفسه ــ بحسب صفوت ـــ الذي اقتاد ذهن مؤلف «مناهج الأدلة» ليكتب ما كتب في «فصل المقال». والدليل الذي يقدمه الباحث إلى أيدي القراء من خلال تفكيك خطاب «فصل المقال» جدير بالاهتمام، خاصةً إذا عرفنا أن ابن رشد الذي حارب الكهنوت الديني، حرّم من الناحية الأخرى نشر الفلسفة على العامة، وعاب على الغزالي هذا الفعل، واعتبر أن الفيلسوف هو الوحيد الذي بإمكانه فهم المعاني الجوهرية للنص الشرعي. الآن فجأة يتضح لنا أن الغزالي وابن رشد ينطلقان من المحطة نفسها، وهي محطة التكفير والتحريم، مع فارق وحيد هو أن الغزالي يضع زمام التفسير الحق في قبضة الصوفي متلقي الفتوح الربانية والتكشفات النورانية، بينما يضعها ابن رشد في حوزة الفيلسوف.