نحن إذاً، إزاء تنكيل مزدوج: مكابدات العيش من جهة، وتنكيل الراوي/ الراوية لغوياً، ببطلها، ضحيتها كنموذج فرويدي بامتياز، من جهةٍ ثانية، باستنفار معجم ذكوري يوازي مرايا العسف في طبقاته المتعدّدة، والتحولّات التي أصابت مستر نون كشخص خائب وهشّ ومخذول، و«كائن افتراضي غير مرئي». هكذا تخوض صاحبة «باص الأوادم» في مستنقع بيروت المهملة والمنبوذة واللامرئية بسرد حلزوني متداخل، يسترجع خلاله المستر نون صوراً من حياته المتشظية بين طفولة مجهضة، وحقبة لاحقة مثقلة بالخيبات والخسائر، وشحنات متواترة من ثأرٍ مؤجل مما لحقه من ألوان العار، كطفلٍ وعاشقٍ وكاتب، إلى أن تخبو اندفاعاته المؤقتة بقوة تأثير العلاج. كأن استمرار حياته مجرد خطأ بيولوجي، لكن هذه الانهيارات المتلاحقة لا تمنعه من تشريح الموجودات في محيطه بانخراطه الأهوج تارةً، والحذر طوراً، في مستنقع الحياة اليومية متسللاً إلى حي برج حمود، أحد أكثر الأحياء البيروتية بؤساً وحناناً وعنفاً. ههنا سيلتقي خصمه «لقمان» أحد أمراء الحرب الأهلية، كما سيلتقي الخادمة النيبالية «شايغا» ويقع في غرامها، قبل أن تنتهي إلى ميتة مفجعة. كانت الكتابة بالنسبة إلى مستر نون علاجاً بديلاً للأدوية بقصد نبش القبح المحيط به، لكن نصّه لن يكتمل، أو أنه سيقع تحت سطوة هذياناته واختلاط الأزمنة، وفقاً لذهاب وإياب المخيّلة، وقدرته على استحضار مجريات حياته المثقلة بالعتمة. فهذا مؤرخ من طرازٍ خاص لما أهملته سرديات الآخرين في توثيق الحرب وأوجاعها، لعلها تصفية حساب مؤجلة لبيروت الأمس واليوم على هيئة مذكرات «تطفو في رأسي العائم بالقاذورات». كتابة بقلم الرصاص تخضع للمحو والتلف، تبعاً لقوة الصدمة، واللاعزاء، ولذّة انتهاك ما هو مهمل في المعجم بقصد فضح خشونة تلك الحقبة السوداء. وإذا بالمدينة مجرد أبراج وأنفاق وجحور، ووحوش، سوف تطارد هذا الكائن المنهك والأعزل والملفوظ خارجاً «أنهض كلّ يومٍ من فراشي كمن ينهض من أرض معركة، من موقعة دمار، من مقتلة».
تلجأ نجوى بركات في بناء عمارتها الروائية إلى تشريح المكان بنظرة أفقية، تلتقط ثماراً فجّة من أرصفة الزحام، قبل أن تطيحه شاقولياً، لاستخراج أكبر قدر من العفن إلى السطح، فلا مساومة هنا في تزيين المنظر بما ليس فيه، كأن صمتها الطويل عن الكتابة (على غرار ما حصل للمستر نون) أثقل جعبتها بمئات السهام التي ينبغي إطلاقها خارجاً لاصطياد فرائس بالجملة، وتالياً تضميد جراحها بلاغياً، فقد كان على مستر نون أن يغادر سريره في المصحّة، بعد غيبوبة طويلة، ليستنشق هواء الخارج، بعيداً عن تعليمات ممرضته وطبيبه. وإذا به يقع بين أنياب وحوش ما بعد الحرب بضراوة أكبر، وأقنعة أكثر إحكاماً، فيعود خاسراً ومعطوباً جسدياً وروحياً.
النزهات بين برج حمود والنبعة وسن الفيل هي تنويعات على الاحتضار لا أكثر
ها هو يكتشف حروب الجوار وغرقى المنافي، ولغز عبارة عصية على التفسير «ماء وملح»، كان قد كتبها بنفسه يوماً. هذه النزهات بين برج حمود والنبعة وتخوم سن الفيل هي في المحصلة تنويعات على الاحتضار لا أكثر، ما يستدعي في المقابل مفردات متوالدة من الجذر اللغوي نفسه للقبض على فكرة الجحيم في حالته القصوى. سيصدم، من نافذة غرفته بمنظر انتحار «مريم» زوجة جاره داوود في المصحّة، كما ستختفي أوراقه، بنوعٍ من التلاشي والخواء والعدم، فما خبره قبلاً، لا يقلّ فظاظة عما تلاه. قيح يطفح فوق الجسد، وتحت التراب. سرير على هيئة قبر، وبلاد تشبه «ثريا» المتغاوية في أصولها وأمجادها وفتنتها، والمعطوبة في روحها، تلفظ الضحايا من دون اكتراث إلى حزام البؤس كي لا تشوّه المنظر بسلالات القاع وحطام البشر المهزومين. سيستنجد المستر نون بجحيم دانتي في توصيف قيامته، والوحل الذي يثقل قدميه بالمآسي والانتهاكات. لا طوق نجاة لأحد وسط هذا الطوفان أو «تسونامي عملاق يجرف الحجر والبشر والأصوات واللغات. تسونامي إلهي، كوني، ينهي العالم ليبدأه من جديد. لا بل ينهيه إلى غير رجعة. مسوّدة ملأى بالأخطاء، وممحاة كونية تعيد البياض الكليّ». لن نقع على الاسم الكامل للمستر نون، كما كنّا نتوقع، إنما ستفاجئنا الروائية بأن راويها كاتبة تدعى «السيدة نون» ملتبسة الهوية، وفقاً لتقرير الشرطة الملحق بالرواية، وبأنها ماتت منتحرة بعد خمسة عشر عاماً قضتها في المصحّة، بأقلام رصاص غرزتها تحت كتفها اليسرى ثم في بطنها (!) خدعة لغوية في لعبة الضمائر، سنكتشفها متأخرين، فيما ستهبّ الرائحة النفّاذة مرّة أخرى، رائحة صلدة بين «القيء والحريق والاهتراء والبراز والعفن والصدأ».