يعدّ هذا الكتاب عن الماضي أكثر منه عن المستقبل، أو يسعى إلى التعرُّف على المستقبل من خلال دراسة الماضي، غير منخرط في عجرفة الاتجاهات التخيلية الجديدة للمستقبل، خصوصاً التي تصدر مِن وادي السِّليكون، حيث يظن هؤلاء المُدراء والمطورون أن التاريخ لم يعد لديه الكثير ليُعلِّمهم إياه. فقد ظنوا أنهم ملكوا وقع حياتهم عبر الاختراعات التكنولوجية المتسارعة والتي يأتي على رأسها: شبكات التواصل الاجتماعي.
يظن كثيرون أن الشبكات الاجتماعية ظاهرة جديدة، وأن انتشارها الراهن لم يسبق له مثيل. هذا غير صحيح ــ على حد تعبير فرجسن ـــ فمعظمنا لا يعلم الطريقة التي تعمل بها الشبكات. تقريباً، لا نعرف مِن أين جاءت. نتجاهل، إلى حدّ كبير، مدى انتشار الشبكات في العالم الطبيعي، والدور الرئيس الذي لعبته في تقدُّمنا، فهي جزء لا يتجزأ من ماضينا بل من جسدنا البشري (جهازنا العصبي يتكوّن من شبكات وعقد إلخ).
ورغم اعتراف فرجسن أن الماضي لم يكن يعرف شبكات تواصلية وتفاعلية هائلة مماثلة لعالمنا اليوم، ولم تكن تدفقات المعلومات فيه متسارعة بهذا الشكل، إلا أنّه يؤكد أن الحجم والسرعة ليسا كل شيء. لذا ينبغي ألا نُعوّل على شبكات تواصلنا وتفاعلنا السريعة والمريحة، خصوصاً أن معرفتنا محدودة بشأن ما إذا كان «عصر الشبكات» سيكون عصراً تحريرياً مُبْهِجاً أم فوضوياً ظلامياً.
وهذا ما يدفعنا لقراءة عمل فرجسن عن شبكات الماضي الأصغر والأبطأ. فمع صِغَرها وبُطْئها، انتشرت في كل مكان أيضاً، بل كانت قويةً للغاية أحياناً. لفهم نظرية الشبكة network، ينطلق فرجسن بشكل عَملي عبر نطاق تاريخي واسع جامعاً شتاتاً أرشيفياً، وعائداً بالزمن قرنين ونصف تقريباً. يبدأ رحلته مع جماعة عُرِفت باسم «المُتنوِرين» وضمت نخبة من المجتمع الثقافي والسياسي كأديب ألمانيا الكبير يوهان فولفغانغ غوته، والفيلسوفين يوهان هيردر وفريدريك ياكوبي، والمترجم يوهان بوده، والتربوي السويسري يوهان بيستالوتسي، والنبيل/الأمير فرانس فريدريك فون ديتفورت، ورجل الدين الشهير آنذاك كارل تيودور.
واقتصر وجود التنظيم، في أيامه الأولى على مُدن ألمانية عدة مثل إنغولشتات وآيشتيت وفرايزِنج، بالإضافة إلى بضعة أعضاء في ميونيخ. ثم امتدت شبكة المُتنورين، مع بواكير ثمانينيات القرن الثامن عشر، لتشمل أنحاء كثيرة في ألمانيا (ص9). وقد كان هدفُ التنظيم النهائي «سطوع شمس العقل التي ستُبدِّدُ غيومَ الخرافة والتحيُّز، وإعطاء العقل اليد العليا» (ص8). ولكن في حزيران (يونيو) عام 1784، أصدرت الحكومة البافارية ثلاثة مراسيم تحظر فيها، بصرامة، شبكة المُتنوِّرين الذين اعتبرتهم «خونة ومُعادين للدين» (ص10).
وبحسب تأريخ فرجسن، يمكن أن نقول إن لحظة حظر شبكة المتنورين هي نفسها اللحظة التي انطلقت معها بدايات نسج خيالات سلبية وإيجابية عن التكونات الشبكية سواء كانت سياسية، أو اقتصادية، أو تكنولوجية، أو عسكرية. لذا عَمل فرجسن على محاولة فهم العلاقة بين الباراديم الشَّبَكي للتجمعات الثقافية والسياسية والاقتصادية والتفاعلية الحديثة والباراديم الهَرَمي للسلطة القومية القائمة.
الشبكات التي ساعدت الثورات... ساعدت أيضاً في تكوين «داعش»
ويلحظ فرجسن، عبر رحلته الطويلة في التاريخ، استمرار صدى أسطورة الشبكات كالمتنورين حتى يومنا هذا. صحيح أن بعض الكتابات عن الأمر مصنّفة تحت أدب الخيال مثل رواية أومبيرتو إيكو «بندول فوكو» (1988) ورواية دان براون «ملائكة وشياطين» (2000)، إلا أنّ كثيرين منا ما زالوا يسمعون أن هناك جماعة سرية تمتلك البنوك الدولية، وشركات النفط ومعظم الشركات الأقوى في الصناعة والتجارة، وتشكل معظمَ الحكومات، وتمتلِك هوليوود، وأن مُرشحي الرئاسة الأميركية يُختارون بعناية من أسلاف سِرِّيين ينحدرون من 13 عائلة مُتنورة هدفهم الرئيس إنشاءُ حكومة عالمية واحدة، يكونون على رأسها لحُكْم العالَم بالاستعباد والديكتاتورية (ص12)
وعلى الرغم من هذا الهذيان، يسجل فرجسن روايةً تاريخية يمكنها أن تشرح لنا التحدياتٍ المُدمِّرة التي طرحتها الشبكاتُ networks على التسلسلات الهَرَميَّة hierarchies القائمة، وخصوصاً في الشرق الأوسط، وهذا ما يهمنا من السرد التاريخي الطويل. فكما ساعد فيسبوك وتويتر ويوتيوب في تكوين شبكات النشطاء (بعيداً عما ستكشفه الأيام عن نواياهم وأفعالهم إيجاباً وسلباً) في إسقاط أنظمة استبدادية في تونس ومصر، وشرعنة تدمير ليبيا وسوريا واليمن، ساعدت أيضاً في تكوين شبكة مقاتلي «داعش» وإعلان أبو بكر البغدادي، تأسيس الخلافة في العراق والشام في يوم 29 حزيران (يونيو) عام 2014. وصار «داعش» شبكةً مفتوحة المصدر، لا تكتفي بنَشْر أيديولوجيتها بطريقة مُمَنْهَجة، بل يستعرض أيضاً أفظع أشكال العنف عبْر عشرات الآلاف من حسابات تويتر المترابطة فيما بينها، والمرتبطة أيضاً بشبكات التواصل الاجتماعي.
ونتيجة هذه الشبكات، وَجَدَ العالَمُ نفسَه في مواجهة وباء الإرهاب. على مدى الأعوام الماضية منذ 2011، كان 2014 هو الأسوأ من حيث الإرهاب، إذ عانت 93 دولة من هجمات إرهابية نَتَجَ عنها ما يقرب من 33 ألف قتيل، العام الأسوأ الثاني هو عام 2015، إذ سقط فيه ما يزيد عن 29 ألف قتيل. (ص449).
وحتى بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب هزيمة «داعش» في العراق وسوريا، فستظل شبكتُه في الفضاء الإلكتروني، على قَيْدِ الحياة صانعة بيئة سامَّة تتكاثر فيها العناصر الثقافية للفكرة الداعشية.
يتنقل فرجسن بين شبكة التنظيمات السرِّية في زمن الإمبراطورية الألمانية، وشبكات الإصلاح والتنوير والمحافل الماسونية والاستكشاف وصعود شبكات المال في أوروبا، حتى يصل إلى الشبكات المالية والاقتصادية الراهنة وشبكات تكنولوجيا المعلومات الجديدة، فيُراوِح بين شبكات الإرهاب والتخابر البشري والإلكتروني، وأخيراً شبكات الهجوم الإلكتروني التي باتت على أُهْبَة الاستعداد في الصين والولايات المتحدة الأميركية الآن. وأخيراً، يصل إلى قول وينستون تشرشل إنه «كلما أمكنك النظر إلى الوراء، أمكنك النظر إلى الأمام» (ص495) ونحن أيضاً كعرب لا بد أن ننظر إلى الوراء أبعد، ونسأل أنفسَنا السؤالَ الآتي: هل من المحتمل أن نكرر موجةً ثورية وراء موجة ثورية؟ وهل يمكن للشبكات الجديدة أن تُحَرِّرُنا من أغلال الاستبداد الدينية والاقتصادية والسياسية؟ أم ستكتفي شبكات التواصل الاجتماعي في تمويل الإرهاب وشن الحروب؟