يقول حلوم إنّ الرواية الروسية مثّلت انعكاساً رمزياً للبحث الفلسفي والأوروبي. فالتأملات الفلسفية في أعمال تولستوي ودستويفسكي عن الشخصية وأهداف حياتها، تفوق ما قامت به الأعمال الفلسفية الروسية. حاول «الكتّاب الكبار في إبداعاتهم، استجلاء سر الإنسان وكيف يكون حين يجد نفسه عند مفترق الطرق بين الخير والشر في المفهوم السائد عنهما، والحياة والموت، والحرية والضرورة، ومن ثم الإرادة والمسؤولية». وإذ يرى أنّ «كثيراً من الأيديولوجيات السياسية لا تُقرّ بالغنى الذي يكمن في الاختلاف»، فإنه يؤكد على أهمية الشخصية في كْسر السكون، وفي الخلق والإبداع، وصناعة التاريخ والحضارات، الأمر الذي لم يره ستالين «حين زجّ كل المختلفين والمتميزين المتمايزين الذين يمكن لهؤلاء أن يروا ما لم تراه الأيديولوجيا».يذكر أن أعمق من عالج هذه الظاهرة في الأدب الروسي كان إيفان غانتشاروف في روايته «أبلوموف» (صدرت عن وزارة الثقافة السورية بترجمة يوسف سلمان عام 1985)، وتفسير الأبلوموفية أنها سوء الإقطاعية أو الأرستقراطية، ما جعل حلوم يعلق ساخراً بقوله أن الأبلوموفية البروليتارية السوفياتية تدمّر الدولة، ويسأل: كيف ذلك؟ ويحسم بأنها لا مبالاة الناس التي أدّت ذات يوم إلى انهيار بلاد يبكونها إلى اليوم، ويستطرد متسائلاً: «من وما الذي حشرهم في كهف اللامبالاة وجعلهم كائنات بلا شخصية وبلا حرية؟»، محدّداً «أن الحالات الأشد فتكاً تكون اللامبالاة بمنزلة اعتكاف عن ممارسة الحياة، نحو حياة تمارس نفسها، فتكون أشبه بحياة كائن في بيات أو سكون».
سولجنتسين استأنس بالصراصير والفئران في مخبئه «لأنها أمدّته بالدفء»
حمل الفصل الثاني من الكتاب عنوان «فرسان الحرية»، وفيه يبدأ مع الكاتب الروسي الشهير ميخائيل بولغاكوف (1891-1940) صاحب مقولة «إذا فكّر أحد ما من الكتّاب بأن يعلن يوماً بأن الحرية ليست ضرورية له، فإنه سيكون كمثل سمكة تعلن على الملأ أنها ليست في حاجة إلى الماء». بولغاكوف كان قد بعث رسالة إلى ستالين توحي أنه بلغ من القهر درجةً لم يعد لديه معها ما يفقده، ما جعله يائساً، جسوراً. يتوقف الباحث أيضاً عند رواية «دكتور جيفاكو» للشاعر والروائي بوريس باسترناك، الذي تعرّض لحملات تخوينيّة بالرغم من أن الرواية صدرت في الخارج. مع ذلك تمّ تقييمها تخويناً، ما اضطره للاعتذار عن عدم قبول جائزة «نوبل للآداب» عام 1958 (لم تنشر الرواية في روسيا إلا في عام 1988). كما يعرض لحالتَي شاعرتَي المقاومة والصمود أولغا بيرغوليتس (شاعرة حصار لينينغراد) وأنّا أخماتوفا، فكلتاهما اعتقل زوجها وأُعدم في المعتقل، وكلتاهما عانت الملاحقة والاضطهاد، وكلتاهما كبست جرحها النازف قصائد تنشد بالدعوة إلى الصمود والمقاومة. أولغا كانت زوجة الشاعر بوريس كورنيلوف (1907-1931) الذي اعتُقل وأعدم في المعتقل. أما أوسيب مندلشتام (1891-1938) فكان أول شاعر كتب قصيدة ضد ستالين، واصفاً شاربيه بالصرصوريان، فكان مصيره القتل، كالعديد ممن قتلوا في عامَي 1937 و1938 من نخبة الأدباء الروس. أما سولجنتسين الذي استأنس بالصراصير والفئران في مخبئه «لأنها أمدّته بالدفء» كما ذكر في روايته «دار ماتريونا»، فيذكّرنا بالأسير الفلسطيني حسن سلامة في عزله الانفرادي في سجون إسرائيل وما ذكره عن استئناسه بالفئران والصراصير في كتابه «خمسة آلاف يوم في عالم البرزخ» (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات).
تمتلئ النصوص التي اختارها وترجمها حلوم لهؤلاء الذين وصفهم بفرسان الحرية «بما يرهق الروح» في وصفه لقراءة أدب السجون والمعتقلات، وأعطت صورة مرعبة عن الحقبة الستالينية، التي حاول الرئيس خروتشوف لدى تسلمه السلطة التخفيف من آثارها في مواجهته مع تلك الحقبة، «لكنه لم يحقق النجاح الذي ابتغاه».