في كتابه «يوميات الضوء والمنفى» يؤرخ لخسارات متتالية، وهو يرى أحوال التدهور والتدجين وحطام المدن، والخيانات. يوميات مضادة تنطوي على سخط عمومي مما آلت إليه أحلام جيله، حاملاً على ظهره سناماً من الهزائم والاندحارات والخديعة، إذ تهتز صورة المثقف الثوري أمام أهوال ما حدث ويحدث في خرائط سريالية، يعالجها ببسالة الاعترافات، وبهتك ما هو مستور، بأقصى حالات الغضب. وقد وجد نفسه محاصراً مثل «حيوان في قفص»، فعدا الخيبة من الأنظمة الاستبدادية، اكتشف عن كثب مثالب المنظمات الفلسطينية التي انتسب إليها متطوعاً في ورشات الكفاح المسلّح، ليتساءل أخيراً، أمام أهوال الهزائم: «هل هذا الذي جرى حقيقة أم ضربة كابوس؟»، من دون أن يندم يوماً على أنه رمى السهم أبعد من مرماه، في بلاد «تحمل جنازتها تحت غيم من الغبار والرمل» على «درب الحريق، ودرب الغريق، ودرب السدّ الذاهب فيه لا يُرَدّ». لكن مهلاً، أليست تجربة صاحب «مرايا النار» كابوساً طويلاً؟ فهذا المثقف المتفرّد لم يهنأ يوماً بالطمأنينة، ما انعكس على نصوصه، منذ مجموعته القصصية الأولى «حكايا النورس المهاجر» (1968)، ثم روايته الأولى «الزمن الموحش» (1973)، التي صُنفت في المرتبة السابعة ضمن قائمة أفضل مئة رواية عربية، ثم رواية «الفهد» التي تحوّلت إلى فيلم بتوقيع المخرج الراحل نبيل المالح (1972).
على الأرجح، فإنّ تجربة صاحب «شموس الغجر» هي مرآة لصورته الشخصية الممزقة بين المنافي، من عنّابة إلى بيروت، وباريس، ونيقوسيا، وصولاً إلى حصين البحر، يتأمل البحر من خيمة على الشاطئ، كصياد سمك يتعلّم الصبر كل يوم، كما لو أنه همنغواي آخر في رصد أحوال الهلاك. في «الوعول»، و«التموجات»، و«الفيضان»، و«مفقود»، و«مراثي الأيام»، بقي حيدر حيدر مخلصاً لأسلوبيّته في استدعاء تيار الوعي من جهة، والدفق الشعري في شحن العبارة نحو حدودها القصوى، ما وضع الرواية السورية في منعطف آخر. هكذا اختزل مجد حيدر الرحلة الشاقة للأب، بجملة واحدة عن فجيعته «الفهد غادرنا إلى ملكوته».