«الجيشُ يحبُّ أنْ يكتبَ على الأرضِ بالهيروغليفيَّةِ
بأشلاءِ الشبابِ الذينَ يردِّدونَ الأشعارَ الغنائية.
كيفَ لي أنْ أُحبَّ الجيش؟».
ويرى في قصيدته أن الخلاص في الهروب من الجيش، وليس المضي قدماً في حرب لا تجلب إلا الموت:
«خطوتُ على آثارِ قصفٍ قديمٍ
طريقي يمرُّ عبرَ بوَّابةِ جنرالاتٍ مُتأمِّلينَ كئيبينَ.
عندَها! صرختُ: هي ذي إذنْ كآبةُ الجنرالات!»
عاش كورسو شطراً مهماً من حياته خارج أميركا، ولا سيما في أوروبا، فكان أشبه بشعراء التروبادور في العصور الوسطى الذين وظفوا حريتهم للتعبير وتحدي طابع الثقافة السائدة، وقدموا «ثقافة مضادة ذات أسلوب حياة يتعارض مع الثقافة السائدة». وهو ما يتناغم مع احتجاجات «جيل البيت» ضد الحروب والهيمنة والرياء الاجتماعي والسياسي في عصرهم. وكما هي الحال في التحوّل الذي أحدثه اعتناق التروبادور للحرية، فإنّ انعتاق «جيل البيت» من النمط الأميركي ورفضهم له، وتأكيدهم على قدرة الفرد على خلق حياته الخاصة بدلاً من قبول إملاءات السلطات والأعراف الاجتماعية المحيطة، أدى إلى تأثير مهم في الحياة الأميركية، وهو تأثيرٌ لا يزال يقلق النخبة السياسية المحافظة التي زعمت أنه ينمُّ عن «عدم المسؤولية» و«إسراف في المجون» بل رأى نيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب الأسبق والمشرح الجمهوري للانتخابات الرئاسية التمهيدية 2012 إن «هذه الثقافة دمّرت أميركا».
كان تمرّد «البيتس» كناية عن ثورة ضد المدنية الآلية المنفرة، والمادية المفرطة، لمصلحة أسلوب حياة أكثر طبيعية وذات قيم روحية تتسم بالتسامح والتعايش والعطاء. وفي شعر كورسو، نجد الكثير من الأسئلة حول مشكلة حرية التعبير في أميركا، وأسباب وجدوى حرب فيتنام، والدعوة إلى المساواة بين الأقليات، ولا سيما للأميركيين السود، ومراجعة علاقة البلاد بسكانها الأصليين، والتعاطف مع محنة المكسيكيين المهاجرين الذين يعملون في المزارع في ظروف صعبة. وتتميز تجربته عن معظم زملائه في «جيل البيت» تميّزاً نوعياً سواء في مرجعياته الثقافية أو في أسلوبه الشعري، فبينما توجه زملاؤه إلى تبني الثقافات الشرقية لا سيما العقائد البوذية والهندوسية نتيجة ضيقهم بالثقافة الأميركية المادية وتوجههم إلى تجارب الشعر الصيني والياباني بإيحاء من طروحات عزرا باوند، كانت لكورسو طَويَّةٌ روحية مختلفة، فهو يستشعر تحدُّره من جذور حضارية وثقافية عميقة، ويعتقد أنّ الميراث الحضاري المتوسطي يصلح بديلاً ثقافياً للخواء الروحي والقسوة المادية لأميركا الراهنة، فدأب على خلق حوار جوهري مع شواطئ الإغريق وتماثيلهم ومخطوطاتهم الصلصالية، وأعمدة الرومان بما تعكسه من عمق الحضارة الإنسانية المتجذرة عميقاً بداخله كما في «ذعر في جزيرة كريت» و«تأملات في ساحة خضراء»:
«لا أشعرُ بغيابِ الأشياءِ القديمة
التي تربُطني بِبلادِي
الضعيفُ يحلمُ بانتصاراتِهِ الأضعف.
....
كمْ أتمنَّى لو عادتْ ثانيةً
بكاملِ أعيادِها
هل ستكونُ اليونانُ عزاءً مناسباً؟».
بل استلهم كذلك الأساطير الفرعونية والبابلية كما في قصيدتي «نسيان في ممفيس» و«الأسلاف». وبلغت رؤياه الكابوسية ذروتها في ديوانه «مشاعر رثائية أميركية» (1970)، ولا سيما مرثيته الكبرى لزميله جاك كيرواك التي تتمحور على ثنائية الأرض والشجرة وما يربطهما أو يفرقهما من جذور أو افتقاد تام لتلك الجذور. تظهر هذه العلاقة الملتبسة مع الأرض قلق الهوية وسطحية الحياة في أميركا. كما أدان في هذا الديوان نمط الحياة الرأسمالية، وفضح التفسير المادي للحلم الأميركي الذي حوّله إلى كابوس، وأغرقه في الخرافات والحروب. وهجا الغرب المتوحش في «قداس عفوي لروح الهندي الأميركي»، وهي قصيدة رثاء ذات حس روحاني في جوِّها وموضوعها بنبرة حزن شفيف ومؤثر ينعى فيها اختفاء تراث تجتمع فيه قيم الزهو والعفوية والحرية، ويتحسّر للانفصال بين الماضي والحاضر، فجاءت على شكل قداس للموتى المعنويين، السكان الأصليين في مواجهتهم خطر الانقراض في أميركا الحديثة. قداس يصوّر الروح الأميركية الأصلية وطريقة حياتها، قرباناً مقدساً في مذبح الحياة المعاصرة، ويوحي عبره بأن «البيتس» أنفسهم هم الهنود الحمر في أميركا الحديثة: الجامحون المنبوذون والمحكوم عليهم بالفشل في كل ما يحاولون.
وإذ يمزج في «القداس» حسّ الرثاء بنبرة الاحتجاج على التدمير والتغييب اللذين ألحقا بالثقافة الأميركية الأصلية ذات الطقوس المتسامية، يصعِّد في قصيدة «النمط الأميركي» خطاب الإدانة للدجل الكهنوتي والخرافات الإعلامية التي تزيّف الوعي، وتحلّ محل الأساطير الروحية الجمالية التي أسّست قيماً وميزت الحضارات القديمة للمصريين واليونانيين والرومان والأميركيين الأصليين، ويشن هجوماً على الحملات التبشيرية و«حملات الأحد» التي تتوسّع لتتحوّل إلى حملة صليبية عل مدار الأسبوع، تتاجر بها الشركات الرأسمالية، بحيث أن الشعبية المتزايدة للقنوات الدينية، لم تؤدِّ إلى إفساد العقل والروح وتوسيع نطاق الأصولية المسيحية عبر برامجها المتواصلة فقط. بل أصبح النجوم التبشيريون أشهر الشخصيات العامة وأثرى البشر عبر اللعب على الشعور بالذنب والتخويف من الشيطان والخطيئة، والترويج لنسخة مشوّهة من المسيح للحفاظ على امتيازاتهم.
«إنَّهُمْ يجعلونَ من المسيح «فرانكشتاين» في أميركا»
«أقولُ لكُمْ إنَّ الشيطانَ ينتحلُ صفةَ المسيحِ في أميركا»
لكن الإنسان ليس مُذنباً بالولادة، ولا ينبغي أنْ يكونَ المسيحُ مخيفاً، ولأن لعبة المال والسلطة عريقة ومتأصلة في عالم السياسة، فقد تغوَّلت السلطة وتحوَّلت إلى وحش هائل، بعدما اخترقها كبار رجال الأعمال ومشاهير هوليوود والأثرياء، ويقدم كورسو نبوءةً تنذر بالمدى والمكانة الخطيرين اللذين يمكن للصناعة الهوليوودية أن تصل إليهما:
«ميكي ماوس يتربَّعُ على العرش
وهوليوود تمتلكُ خَزيناً كبيراً».
ومن اللافت أنَّ القصيدة نُشرت قبل عشرين عاماً من وصول نجم هوليوود رونالد ريغان إلى كرسي الرئاسة وقبل خمس سنوات من انتخابه حاكماً لولاية كاليفورنيا.
ويصوّر كورسو في «النمط الأميركي» أمةً انحرفت عن جذورها وتنصّلت من القيم والمبادئ التأسيسية، وبلداً جرى تحويله إلى «فرانكنشتاين»: وحش لا يمكن السيطرة عليه، بل لا حلّ سوى بالهروب منه ورفض الثقافة التي شكَّلته. ويعبر كورسو عن محنته المريرة ومأزقه الصعب في قصيدة «تاريخ السياسة الأميركية» بعفوية:
«كلما مررتُ بسفارةٍ أميركية ينتابني شعورٌ مُلتبسٌ!
فأودَّ أحياناً أنْ أهرعَ إليها وأصرخُ: أنا أميركي!
لكنْ سرعان ما أغادرُها بضعَ خطوات إلى الحانة الأميركية
لأسكر وأبكي: أنا لست أميركياً!»
* شاعر ومترجم عراقي