عندما يكون القاصّ شاعراً، لن يتأخر في الإبداع عن سرده القصصي عشر دقائق، بل سيتقدّم عشرَ خطوات ليكون نتاجه مختلفاً ومتفرّداً. هذا ما قدّمه الشاعر والقاص السوريّ رأفت حكمت في مجموعته القصصيّة «مُتأخّراً عن العالم مسافة عَشر دقائق» (دار النهضة). عنوانٌ حمل صيغة الحال، كأنّه جواب عن سؤالٍ عابرٍ «كيف حالُك؟»، يسألك إيّاه العالم من دون أن يكترث فعلاً لحالك، ولكن يأتي جوابك صادماً للوجود، وبديهياً كإنسانٍ سوريّ الهويّة: مُتأخّراً عن العالم مسافة عَشر دقائق.

عبر مجموعته، يغوص حكمت في أعماق النَّفْس البشريّة بكلّ ما فيها من تعقيدات وأوهام، ما هي سوى وليدة مجتمعات تمتهن تلقين أبنائها الخوف والقلق والشَّك؛ مُستعرضاً قصصه الاثنتي وعشرين عبر ثلاثة أبواب، حملت العناوين: «توطئة» و«عَشر أصابع مفقودة» و«هِيَ بينَ هُم».
في فضاءٍ يسوده الخوف، يقصّ حكمت في الباب الأول «توطِئة» سبعة قصصٍ، نلمح فيها أنواع الخوف التي تُغذّي شخصياتنا منذ الطفولة المُبكرة، ليَنتج في النهاية إنسانٌ ممسوسٌ بالخوف، بشخصيّة انهزاميّة: الخوف من الزمن، من الحظ العاثر، من الآخر الأكبر عُمراً وقوّةً جسدية، من الاغتراب والاعتقال وأنظمة الاستبداد، من ثنائية الشك واليقين، والخوف الأخطر من السلطة الأبوية، التي غالباً ما تكون مسؤولة عن معظم العُقَد النفسيّة التي تنمو في داخلنا، حتّى تُؤول لوحشٍ يلتهمنا. استعرض حكمت هذا النوع الأخير في قصة «من الذي سرق السجّادة»، حيث يحكي عن طفلين حاولا ـــ أثناء غياب والديهما ـــ رَقع ثُقب في الكرة التي يلعبان بها، عبر استخدام صمغ قابل للاشتعال، يضعان الصمغ حول الثُّقب، ويُشعلان النار فوقه لتسريع عملية الإصلاح، لتكون النتيجة خروج النار عن السيطرة. وبعد الفشل في محاولة إخفاء معالم الكارثة المتمثّلة في سجّادة، يهربان من عقاب أب لا يُحتمل: «مرّ أسبوعان من القلق والهدوء والنظرات المريبة بين أفراد العائلة، إلى أن فجأة، في إحدى الليالي، رنّ الهاتف الأرضي في المنزل، وسط صمتٍ مريب، فنهضت الأمّ واتّجهت نحوه، رفعت السماعة ووضعتها على أذنها بكلّ هدوء، وإذا بصوت زوجها على الطرف الآخر من الخط يُخبرها أنّه يتّصل من منزل جارهم عامل النظافة (رجل فقير موظف في البلدية)، وهو الآن عنده، يجلس فوق سجّادة تشبه السجّادة المفقودة، وتظهر عليها آثار الحروق، على حَدّ قول الجار: إنّه وجدها مَرميّة في مستودع الآليّات الزراعيّة المُعطّلة في قبو البلديّة. دبَّ صمتٌ ثقيلٌ، وبدأ لون وجه الأم يتغيّر، يحمر بسرعةٍ كأنّ الدم الذي في عروقها يتبخّر، تنظر إلى ولديها بعيون غاضبة ومُشفقة، بينما يهربان من المنزل تحت المطر، حافيين».
يأخذنا حكمت في الباب الثاني «عَشر أصابع مفقودة» عبر خمس قِصص إلى فضاءٍ مُغاير، يؤنْسِن فيه الأشياء ويستنطقُها، ويصوّر لنا معاناتها. ستشعر بطريقةٍ أو بأُخرى أنّه يصوّر عبر الجماد، وبطريقة سوريالية، معاناة بشريّة حقيقية، تاركاً للقارئ حريّة التأويل. مرّة يستنطق «مانيكان»، ومرّةً شجرةً، ومرّةً دميّةً صغيرةً، ومرّةً كرسيّاً. وفي قصّة «النار في مكانٍ آخر»، يستنطق بمجازٍ عالٍ قطعة فحم حجريّ بحجم كرة البيسبول، سقطت من عربة بعد استخراجها من أحد المناجم، ليلتقطها رجل يقود دراجته الهوائيّة، وليتغير بذلك مصيرها من فحم حجريّ قابل للتحويل إلى ألماس، إلى امرأة عارية مرسومة بعناية على باب غرفته: «لا أعرف ما الذي يقوم به هذا الأحمق، حجمي يتضاءل بسرعةٍ مُخيفةٍ، وهو يُسرع أكثر دون رحمةٍ، خَطّ منحنٍ من أعلى الباب إلى أسفله، ثمّ دائرتان صغيرتان، داخل دائرتين أكبر منهما، بينما أنا أذوب بشكلٍ مُرعبٍ، حتى صار حجمي بحجم حبّة لوزٍ، بالكاد يستطيع أن يُمسكني بين أصابعه... ثمّ فجأةً، رمى ما تبقّى منّي على الأرض وهو يُطلق تنهيدةً كبيرةً، واستلقى على الأريكة قُبالة الباب، يتأمّل ما صنعت يداه... بينما أنا من مكاني أشاهد معه ــ بما تبقّى من حجمي ــ كيف تحوّلت من قطعة فحمٍ صغيرةٍ كانت ستُرمى في المراجل وقوداً للنار، إلى امرأةٍ عاريةٍ مرسومةٍ بعنايةٍ على باب غرفة رجلٍ غريبٍ، ووحيداً جدّاً، يبحث عن سببٍ لإيقاد النار في مخيلته».
تقدّم المجموعة عينة عن مجتمع مكتنز بالتشوهات النفسيّة المكبوتة


وفي الباب الثالث «هِي بين هُم»، يعتمد حكمت أسلوب التورية لإيصال المعنى، جاعلاً من القارئ شريكاً له في عشر قصص متتالية، يتفنّن في تنويع فضاءاتها وشخوصها، يكون الخيال قاسماً مشتركاً يتخذه جميع أبطالها سبيلاً للنّجاة من: العمى، النّدم، الشوق، الصمت، صراعات النفس، البارادوليا، الخرافة والجسد، الحُلُم، الزهايمر، الوهم. في قصّة «منامٌ مزمنٌ»، يهرب البطل من الواقع إلى النوم، ليستيقظ يوميّاً هارباً من منام يتكرّر، إلى أول شخص يصادفه، ليرمي عليه عبء التفاصيل التي رآها، وينتهي السرد بطريقة صادمة: «وقد يستغرب بعضكم من فكرة أنّني قادرٌ على تقليد صوت قَشّ يحترق، لذلك لا بدّ من إخباركم أنّني في كلّ مرّة أُصدر صوتاً مختلفاً، أغرب من صوت الصهيل أو صوت النار في قَشّ يابس. مرّة قلّدت صوت جرذ يخرج من بين أكياس التبن، وأيضاً، صوت ريح تعبر تحت باب خشبي قديم، فالأمر كلّه لا يتعلّق بقوّة خارقة، أو بخيالٍ غير منطقي، إطلاقاً، فأنا لست سوى «وهمٍ» صنعه ذلك الرجل، الذي يحلم أنّه يستيقظ، ثمّ أثناء ذلك، يستيقظ فعلاً، ليبدأ بالبحث عن شخص ما، يعيد عليه منامه المُزمن على شكل أصواتٍ، تنبش في رأسه، لتخبره أنّ الحلم انتهى. في آخر ليلة له...»
عندما تصل إلى نهاية المجموعة، ستشعر أنّك خارج للتّو من عيادة أمراض نفسيّة، لطبيب ذكي قادر على تشخيص مرضاه، عبر تقرير على شكل قصة قصيرة؛ لتُشكّل بذلك المجموعة بمجملها عينة عن مجتمع مُكتنز بالعُقد والتشوهات النفسيّة المكبوتة.