ما حال الأمة في واقعها ومرتجاها بعد مرور عام على حرب تموز؟إن الإجابة عن هذا السؤال ترمي إلى توصيف الحاضر بما يؤدي إلى استشراف المستقبل. إنه تمرين للقدرة على فهم حدث محلي جلل في إطاره الإقليمي والدولي. أوليست حرب الأيام الثلاثة والثلاثين محصلة صراعٍ استراتيجي محموم بين المقاومة اللبنانية والإسلام الجهادي من جهة والولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل من جهة أخرى؟
ليس من الغلوّ القول إن هيباتٍ ثلاثاً سقطت في حمأة حرب تموز وبعدها. سقطت هيبة الجبروت الأميركية، وهيبة الردع الإسرائيلية، وهيبة الشبكات الحاكمة العربية. إنها هيبات متداخلة، مترابطة، تعتمد واحدتها على الأخرى، فلا عجب أن يكون سقوطها متزامناً.
بدأت هيبة الجبروت الأميركية بالتداعي قبل حرب تموز، وتسارعت في أثنائها، وبَدَت على عتبة الانهيار المدوّي في العراق بعد مرور عام على اندلاع الحرب في لبنان. وإذا ما تمّ انهيارها الكامل فإن مفاعيله لن تقتصر على بلاد الرافدين بل ستمتد لتشمل بلاد الشام، ولا سيما فلسطين ولبنان، وبلدان الجزيرة العربية وصولاً إلى إيران الإسلامية وأفغانستان «الأطلسية». ولن تبقى بمنأى عنها بلاد وادي النيل والقرن الإفريقي. إنها لعبة الدومينو الشهيرة، كما يقول هنري كيسينجر، ما إن يسقط حجر حتى تتداعى سائر الأحجار إلى السقوط.
هيبة الردع الإسرائيلية أسقطتها المقاومة اللبنانية في 33 يوماً بعدما أرعبت الفضاء العربي أكثر من 33 عاماً. بات «الجيش الذي لا يقهر» قابلاً للقهر، وإرادة القتال الصهيونية قابلة للانكسار. سقط مع هيبة الردع المذهب العسكري الإسرائيلي القائل بنقل الحرب فور اندلاعها إلى أرض العرب، إذ تمكّنت المقاومة اللبنانية من نقل الحرب، عبر صواريخها، إلى أرض العدو ونجحت في دحره برياً على مشارف الحدود.
قبل تداعي جبروت أميركا في العراق وسقوط هيبة الردع الإسرائيلية في حرب تموز، كان النظام العربي الرسمي ينهار على مدى سنوات ببطء، لكن بثبات. لعل حرب تموز سرّعت معدلات انهياره إذْ كشفت عجز الشبكات الحاكمة العربية وتواطؤ بعضها مع حليفها الأميركي ورديفه الإسرائيلي. ليس ثمة وجود عربي مؤثّر ولا قدرة ولا نفوذ. العرب، في الوقت الحاضر، مجرد ظاهرة صوتية.
سبقت سقوط الهيبات الثلاث وصاحبتها وأعقبتها ظواهر خمس لافتة. أولى الظواهر انحسار الحركة القومية عقب هزيمة 1967، وصلح «كامب دايفيد» بين مصر وإسرائيل أواخر سبعينيات القرن الماضي، واجتياح العراق للكويت، وصلح وادي عربة وأوسلو بين الأردن ومنظمة التحرير وإسرائيل مطالع التسعينيات. فوق ذلك، لا تجسّد الحركة القومية اليوم، بقواها المبعثرة على امتداد القارة العربية، معارضةً فاعلةً للشبكات الحاكمة في أقطارها. فالمعارضة، أو بالأحرى المعارضات، العربية معتلّة بأمراض النظام العربي السقيم. حاضرها، كما مستقبلها، مرهون إلى حدّ بعيد بمصير هذا النظام المتهاوي. وهي، شأنه، تكاد تكون في حال موتٍ سريري.
ثانية الظواهر اللافتة انطلاق الإسلام الجهادي وصعوده. لعله، في أبرز مسوّغاته، ردّ فعل صاخب على هزيمة الحركة القومية. غير أنه ليس فكراً وجسماً واحداً. إنه جسم لامركزي، يتألف من تنظيمات وشبكات وخلايا كثيرة في شتى أنحاء العالم، لا تجمعها ولا تنسّق بينها سلطة مركزية واحدة. مع ذلك، يبدو الإسلام الجهادي بمختلف تياراته ومذاهبه ومشاربه وتنظيماته موحداً في نظرته وعدائه للولايات المتحدة وللأنظمة والشبكات الحاكمة المتحالفة معها. وإذا قُيّض لجناحيْه الأبرزين، الإسلام الجهادي السنّي السلفي والإسلام الجهادي الشيعي الحركي، أن يتضامنا ويتحالفا ضد المشروع الإمبراطوري الأميركي الصهيوني فإن وجود أميركا ونفوذها في المنطقة يصبحان مرشحين للطرد، وأمن إسرائيل، وربما مصيرها، في الميزان.
ثالثة الظواهر اللافتة استهداف النفط طاقةً وغنيمةً. فالنفط بما هو مصدر الطاقة الرئيس للعالم الصناعي بشتى أطرافه، ولا سيما أميركا وأوروبا والصين واليابان، وبما هو مصدر عائدات مالية سنوية بمئات مليارات/بلايين الدولارات للبلدان العربية والإسلامية المنتجة له وللغاز، بات محور استهداف الإسلام الجهادي على مدى العالم كله. وفيما تسعى أكبر أطراف العالم الصناعي إلى الاستحواذ على منابع النفط والغاز ومصباتهما وتجهيزاتهما وإنتاجهما، يكافح الإسلام الجهادي السلفي لضرب هذه المنشآت والتجهيزات بغية حرمان قوى الاستبداد والاستكبار مردودَها الطاقوي والمالي، ولا سيما منها الولايات المتحدة وحليفاتها من الشبكات الحاكمة في العالم العربي والإسلامي.
رابعة الظواهر اللافتة شيوع الفوضى والعنف الأعمى في شتى أنحاء دنيا العرب والمسلمين. مردّ هذه الظاهرة قوتان مقتدرتان: أميركا والإسلام الجهادي. جورج بوش نادى منذ سنوات بضرورة إشاعة «الفوضى الخلاّقة» أو «الفوضى البنّاءة». يعني بها تفكيك شعوب المنطقة وكياناتهـا إلى مكوّناتها الأولى وإثارة العصبيات والفتن والحروب القبلية والمذهبية والإثنية بينها. كل ذلك من أجل إيجاد حالات من الفوضى العارمة والانقسامات الحادة والصراعات الدموية، لتساعد إدارة بوش الإمبراطورية على إعادة تشكيل دول المنطقة سياسياً وثقافياً، وعلى تسليط إسرائيل عليها بالحرص على جعلها أقواها وأكثرها تماسكاً ونمواً وتطوراً في شتى ميادين الحياة. في المقابل، تكافح أطراف الإسلام الجهادي بجناحيْها الفاعليْن، قوى المقاومة ومنظمات العنف الأعمى، لمواجهة المشـروع الإمبراطوري الأميركي الصهيوني، كلٌ بحسب عقيدته وبرنامجه ونهجه السياسي والقتالي. فقوى المقاومة القومية والإسلامية تعتمد نهج الكفاح الميداني والمدني في آن، وتحرص على أن تنأى بنفسها عن أساليب المنظمات الإرهابية التي لا تحترم حقوق الإنسان ولا تراعي أو تحمي المدنيين الأبرياء. أما منظمات العنف الأعمى فإنها تكفّر الجميع، حكوماتٍ ومجتمعات. فالحكومات، أو غالبيتها وفي مقدمها أميركا، تتوغل في استبدادها واستكبارها وسطوتها على حقوق الأمة ومواردها. والمجتمعات قياداتٍ وأفراداً تسكت عن جور الحكومات وتشاطرُها أحياناً مروقها وفسادها. ذلك كله يبرر، في رأي منظمات العنف الأعمى، تكفير الجميع، وبالتالي شنّ الحرب عليهم بكل الوسائل المتاحة، الشرعي منها وغير الشرعي، واستهداف الجميع، ظالمين مشاركين أو أبرياء ساكتين. وإذ تتهم قوى المقاومة القومية والإسلامية منظمات العنف الأعمى بالمروق ونهجها باللاجدوى والفشل، تتمسك منظمات العنف الأعمى بنهجها الدموي الفاقع ولا تتورع عن استهداف قوى المقاومة القومية والإسلامية وعن حرق المراحل بإعلان قيام «إمارات إسلامية» حيث تتحكّم وتسود.
في حمأة هذه الحال المزرية والمفجعة، تتفتّق شرائح الأمة في شتى أقطارها وأوساطها عن عناصر نهضوية حيّة، قومية ديموقراطية وإسلامية شورية، تتفاعل وتتجمع وتتعاون على صعيديْ التفكير والتدبير للخروج من حالٍ الفوضى والشلل والضياع. لعل الأكثر مدعاةً للانتباه والمتابعة ظاهرة هي الخامسة في تسلسل الظواهر اللافتة. إنها ظاهرة انبعاث العسكرية العربية الراديكالية. صحيح أنها خجولة، تنمو بهدوء بعيداً من أضواء المجتمع السياسي وصخبه، لكنها ظاهرة حيّة، تهيّئ قياداتها وعناصرها أنفسَها للاضطلاع بأدوار مفتاحية في قابل الأيام. لعل المسوّغ الرئيس في ما يدفع عناصر هذه الظاهرة الى التكوّن والفعل اقتناعُها بأن القوات المسلحة، بما هي العمود الفقري للدولة وحارس الوحدة الوطنية للبلاد ومستودع قيمها المجتمعية، باتت العامل المشترك الوحيد الباقي من إرث الماضي ورصيد المستقبل القادر على مواجهة حال الفوضى والتفكك والشلل، والانتقال بالبلاد والمجتمع إلى الأمن والنظام والتناظم والتضامن والتعاون.
لا يمكن الفصل، على صعيد التفكير، بين ظاهرة انبعاث العسكرية العربية الراديكالية وانبعاث رديفتها المدنية النامية في صفوف النهضويين من قوميين ديموقراطيين وإسلاميين شوريين. لكن التمايز يبقى قائماً على صعيد التدبير. فالضباط الأحرار الجدد متحصّنون، بطبيعة الحال، بمهنيتهم الانضباطية ويخططون للتوسل بها من أجل الاضطلاع بمهمة جلل هي المحافظة على وحدة البلاد، الوطنية والمجتمعية والسياسية، وإحباط القوى المحلية والخارجية المتربصة بها والناشطة على طريق التفكيك والتقسيم والتفتيت. في هذا المجال، يبدو التوافق والتحالف ممكناً وواعداً بين ظاهرتيْ الانبعاث النهضوي في صفوف كلٍ من المدنيين والعسكريين ما دام العدو المشترك واحداً هو القوى الخارجية المحتلة أو الطامعة. لكن التوافق يصبح صعباً عندما يكون «العدو» المشترك نظاماً سياسياً أو شبكة حاكمة. ففي هذه الحال يميل المدنيون إلى التخوّف من تسلّط العسكريين واحتكارهم السلطة وتأخير العودة الى الديموقراطية، فيما يستعجل العسكريون إزاحة الشبكات الحاكمة الوكيلة أو العميلة لقطع الطريق على القوى الخارجية الطامعة التي تُحسن تطويع الشبكات الحاكمة واستخدامها في عملية الهيمنة على البلاد المحتلة أو المستغَلّة.
في خمسينيات القرن الماضي كان ثمة سباق في أقطار عربية عدة بين القوى السياسية الراديكالية من جهة، والجيوش من جهة أخرى، للوثوب الى السلطة. معظم قيادات الجيوش، آنذاك، كانت على صلة بدوائر الاستخبارات الأميركية إن لم تكن أدوات طيّعة بأيديها للحؤول دون صعود القوى السياسية الراديكالية الى السلطة. اليوم يصعب تحديد الهوية السياسية والإيديولوجية للقوى العسكرية الراديكالية ومستقبل علاقتها بالقوى السياسية الراديكالية. لكن ليس من الغلوّ القول إن توافق القوى النهضوية القومية الديموقراطية والقوى النهضوية الإسلامية الشورية وتحالفها ينعكسان إيجاباً على القوى العسكرية الوطنية الراديكالية، وربما يتيح لهذه القوى جميعاً، بجناحيْها المدني والعسكري، ابتداع تجربة سياسية ديموقراطية راديكالية متقدمة تحاكي تجربة فنزويلا البوليفارية الجديدة في ظل قيادة هوغو تشافيز.
* محامٍ ووزير سابق