لم تكن لدى محمد نيّات سابقة للهجرة، أصرّ لسنين طويلة على البقاء في لبنان والتظاهر في كلّ الساحات لتوفير ظروف معيشية أفضل. عائلته وأصدقاؤه اعتبروه ساذجاً لأنه بقي في لبنان كل هذه المدّة، لكنه كان يجيبهم بأنّه يفضّل أن يقف سنين في ساحات الاعتصام لبناء وطنٍ أفضل، على أن يقف ساعة أمام سفارة كي يحصل على فيزا. إلى جانب تحركات 17 تشرين، شارك محمد في الاحتجاجات عام 2015 ضد أزمة النفايات، كما انضمّ إلى تظاهرات ضد التمديد لمجلس النواب عامَي 2013 و2017، إضافة إلى اعتصامات عديدة لإلغاء الطائفية السياسية، واللائحة تطول. لكن 17 تشرين كان القشة التي قصمت ظهر البعير. حلمه الأخير بالتغيير سقط. بالنسبة إليه، لن يتغير وضع لبنان أبداً ما دام «اللبناني مستمرّاً في نفس العقلية والفكر الطائفي والمناطقي». يعتبر أنّ الحقيقة اتّضحت لديه متأخرة، وأنّ هذا البلد لا أمل منه: «أدركت أني كنت منفصلاً عن الواقع. أكثر من 20 عاماً قضيتها وأنا أتظاهر وأحارب الفساد في بلدٍ يريد الفساد. هذا شعبٌ فاسد يشتم الزعيم الفاسد، ولكنه في الوقت نفسه يسرق المياه والكهرباء ويضحك على من يلتزم بقوانين السير ويضع حزام الأمان». يكمل: «حاولتُ كثيراً ولكنني شبعت من الخيبات. هذا البلد دفن أحلامي، وأنا قدّمت له أكثر ممّا يستحقّ».
17 تشرين فشلت لأنّنا لسنا شعباً واحداً نحن عدّة شعوب لا يجمعها شيء
محمد لم يغادر لبنان وحيداً. انضمّ إليه الكثيرون ممّن شاركوه حلم التغيير، ووقفوا عاجزين أمام الواقع المرير. باسل نعمة وزوجته عليا بدر كانا من أوائل من شاركوا نحلة في اعتصامات مصرف لبنان. يعتبر باسل أنّ المنظومة المصرفية المتوالفة مع زعماء الطوائف هي أحد أهم أركان الحكم الظالم في لبنان، و«إسقاط هذه العصابة يعني انهيار هيكل الحكم الظالم». كلّ من شاركوا في تظاهرات المصرف يعرفون باسل جيداً، ولا سيما عندما كان يعلو صوته عبر مكبّر الصوت، صارخاً: «يا لبناني وينك شرّف، بدنا نسقّط حكم المصرف». لكنّ الأمر لم ينتهِ كما تمنّى باسل ورفاقه. حكم المصرف مستمرّ، ولم يسقط سوى حلمهم بلبنان أفضل.
بالنسبة إلى باسل، أحبط زعماء الطوائف الانتفاضة عن طريق تفريق الناس وجعلهم في مواجهة بعض. يوضح: «17 تشرين فشلت لأنّنا لسنا شعباً واحداً. نحن عدّة شعوب لا يجمعها شيء. حتى الظلم لا يجمعنا، على العكس يفرّقنا. نختلف على أسباب الفقر والقهر وبالتالي نعجز عن الاتفاق على حل». يرى باسل أنّ 17 تشرين كانت فرصة تاريخية لأي جهة ناضجة وطنية وصادقة لقيادة الانتفاضة والانطلاق بها نحو لبنان يلبّي تطلعات الشعب بفئاته كلها. جهات توهّم هو ورفاقه المحتجّون وجودها، ليكتشفوا لاحقاً أنّ لكلٍّ أجندته الخاصّة، وأنّ أياً منهم لا تتقاطع أجندته مع تطلعات الشعب المنتفض وآماله. «هكذا هُزمنا، وستُهزم أي ١٧ تشرين مستقبلاً».
رفقاً بأولاده، أُجبر على إعلان الهزيمة والبحث عن لقمة عيشٍ لهم في الخارج. هي ليست المرة الأولى التي يغترب فيها، فهو عمل في الإمارات سنوات عديدة قبل أن يعود إلى لبنان منذ 8 سنوات بسبب رغبته في تربية أولاده هنا وتأسيس حياة لهم في وطنه. بعد عودته، افتتح باسل مؤسسة صناعية خاصة بتصنيع المعادن واللوحات الإعلانية، إلا أنّ ارتفاع أسعار الموادّ التي يستعملها بسبب انهيار سعر صرف الليرة أدّى إلى انهيار مشروعه. «ما كنت بدي أعمل ثروة، كان هدفي عيش مع عيلتي بوطني بكرامتي بس». كما يؤكد أنّ قرار الهجرة لم يأتِ إلا بعدما تقطعت به السبل وأصبح هو وعائلته على حافة الجوع.
حين فقد ترف الاختيار، حزم أمتعته وانتقل إلى غانا، إذ لم يعد باستطاعته الاستمرار في «المواجهة غير المتكافئة». باسل الذي يحمل شهادة في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، سافر وحيداً للعمل في قطاع الصناعة في القارة الأفريقية، تاركاً عائلته في لبنان. «لا يوجد مجال للرضا في الوضع الذي نعيش فيه، لدي عائلة ومسؤوليات. سافرت مكرهاً مكرهاً مكرهاً»، يقول بحسرة.
محمد وباسل لن يعودا إلى لبنان للمشاركة في أي تظاهرات أو «ثورة» مستقبلاً. أغلقوا الباب بإحكام خلف أي إمكانية للعودة، بعدما أُحبطوا من محاولات التغيير الخائبة. حالهم كحال آلاف اللبنانيين الذين غادروا لبنان بشكلٍ نهائي، بحثاً عن جرعة أمل بحياةٍ أفضل فقدوها في وطنهم.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا