علي السوداني *
«القبيلة الضائعة، الأكراد في الأدبيات العربية ــ الإسلامية»، إبراهيم محمود، شركة رياض نجيب الريس للكتب والنشر، بيروت، 2007
يصلح كتاب «القبيلة الضائعة» لإبراهيم محمود لأن يكون مادة تؤكد جانباً من الآراء التي تذهب اليوم الى التدقيق في مسألة «القومية الكردية» ومبرراتها التاريخية والحضارية. وليس ما يوحي به الكتاب هنا هو أول تعرض لهذه الناحية، فلقد سبق لمؤرخين أكراد أن تعرضوا للقتل أخيراً بسبب ما أعلنوه في هذا الخصوص، إذ هم تجاوزوا على البداهة الشائعة المكرسة عن «القومية الكردية». فقد رأى هؤلاء في أن الأكراد هم جماعة تحققت في التاريخ لا عبر خصوصيتها الذاتية، بل من خلال التفاعل مع الحضارات القريبة، وأن ذلك لم يكن حتماً نتيجة للاضطهاد أو القمع الممارس عليها بقدر ما هو على الأرجح خاصية تكوينية تتعلق بالكرد ووجودهم وظروف عيشهم. ويبدو أن هذا الموضوع سيكون مدار نقاشات أوسع في ظل الوضع العراقي والتطورات التي عرفها الأكراد في العقدين المنصرمين، وخاصة في العراق. وكتاب إبراهيم محمود يدخل في صلب هذا النقاش، وهو يمكن أن يرجّح بالوثائق وجهة النظر التي تميل الى تقليل القناعة بالخصوصية القومية الكردية أو بقدرة الأكراد على المستوى «الاستراتيجي» على إقامة «كيان قومي» خاص بهم.
وكما جرى في الماضي البحث في اللغة والثقافة والدين وإقامة الدول لدى الأكراد وعبر تاريخهم، يأتي تسقّط أخبار الكرد في التاريخ ليضيف ناحية أخرى يحتاج إليها الباحثون جميعاً اليوم بالذات حتى يستكملوا رؤيتهم للمسألة الكردية في الماضي والحاضر. بُذل في الكتاب جهد غير عادي، إذ ينبش الكاتب في كتب التاريخ والجغرافيا والدين عن كل ما قيل وكتب في الأكراد، بدءاً بالأصول ونسب الكردي العربي والميثولوجي والشيطاني والفارسي والتوراتي. ثم ينتقل الى الكردي في الأدبيات العربية وصولاً إلى الإسلام الكردي والكرد والعرب.
وبعد مناقشات يعقدها الكاتب مع عدد كبير من الآراء والمواقف يصل الى حقيقة تقول بأن هؤلاء الناس عاشوا في هذه المنطقة طويلاً وتفاعلوا معها باستمرار، ولكنهم عاشوا متفرقين مثل قبيلة ضائعة.
«حوارات أحمد الكاتب مع المراجع والعلماء والمفكرين حول وجود الإمام الثاني عشر»، أحمد الكاتب، الدار العربية للعلوم، 2007
لم يصادف كتاب «تطور الفكر الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه» الصدى اللازم لدى الأوساط الفكرية والثقافية العربية عموماً، وانحصر الاهتمام به داخل دائرة محدودة. وعلى الرغم من الهزة العنيفة التي أحدثها في الأوساط الفكرية الشيعية وفي «الحوزات»، لم يُعامل باعتباره إحدى أهم وأجرأ الكتابات التي تتناول مسألة عقيدية حساسة. وبغض النظر عن التشويهات المعتادة في مثل هذه الأحوال، فإنّ الكتاب ناقش مسألة تاريخية وعقيدية مهمة جداً تركزت على إثبات عدم وجود الإمام الثاني عشر «الغائب» من جهة، ومن منطلق وخدمة لغرض مهم هو قضية أصل التشيّع وعلاقته بموضوع «الشورى» من جهة ثانية.
وربما يكون الكاتب قد تصور في حينه أن الجانب العقائدي من شأنه أن يبرر بنظر القراء والمهتمين مسألة التعرض للوجود المادي والجسدي للإمام الغائب، وهو ما ظهر أنه خطأ في التقدير. فالذين اعترضوا على مضمون الكتاب، وذهبوا إلى حد تكفير الكاتب وإهدار دمه، كانوا يقصدون بصورة خاصة إحالته العقيدة الشيعية الاثني عشرية على مبدأ «الشورى»، أي إخراجها من أهم ركن من أركانها، «الإمامة» و«العصمة». ولم يفت هؤلاء المقصد النهائي والحقيقي الذي يصل إليه الكتاب ويريد تحقيقه، وهو بالحد الأدنى، فتح باب النقاش في عمق التصورات المؤسسة للمذهب. والكتاب الحالي يبدو بمثابة محاولة وضع هذه القضية في المجال الأوسع، أملاً بالتعرض للنقاشات أو الآراء التي استثارها الكتاب. وجمعها هنا يؤكد وجود معركة فكرية غير عادية، لا شك في أنها من أخطر وأهم المعارك الفكرية في الميدان الفكري العربي، وهي تتجاوز سواء في أثرها أو مغزاها الكثير من القضايا التي أثارت عواصف من الجدل والنقاش في الأوساط الفكرية العربية.
فهل العزل الذي يحيط بهذه المسألة مردّه إلى «خصوصية» القضية؟ وهل هي قضية تدور خارج المجال الفكري العربي، وبعيداً عن الاهتمامات العربية؟ لا شك في أن الوضع العراقي والسجالات السياسية العاصفة التي نتجت منه، قد أثبتت أن هذه القضية تقع اليوم في صلب ما يحدد مستقبل المنطقة وحاضرها، وأن هنالك حاجة الى تعلّم كيفية التعامل مع مثل هذه القضايا، وإعادة النظر في مكانها ومقدار أهميتها أصلاً.
هذا ما يريد كتاب «حوارات أحمد الكاتب» أن يلحّ عليه. وكان كتاب «تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى الى ولاية الفقيه» قد صدر قبل عشر سنوات، وجاء في مقدمة الكتاب الحالي أنه «أثار عاصفة من الردود والحوارات والنقاشات لم تهدأ حتى اليوم، وصدرت ضده عشرات الكتب والمقالات على نحو مباشر وغير مباشر». ومع ذلك، فإن الكتاب لم يُقرأ على نطاق واسع، ولعل الكتاب الحالي يجعله أقرب الى الدخول الى الدائرة الفكرية والثقافية والروحية الأوسع.
* كاتب عراقي