ماذا تجدي كلّ المراسم السامية حين يقوم أحد بإفراغها من مضامينها
وعلى الرغم من أن الكعبة الشريفة تعرّضت لعمليات تدمير كليّ وانتهاك لحرمتها قامت بها صفوة من الأرستقراطية الإسلامية ليس أقلّها دكّ الحجاج بن يوسف البيت العتيق على رأس صحابي هو عبدالله بن الزبير، إلّا أنّه في كل مناسبة لا يجد الإعلام المبرمج إلّا استعادة السيرة القرمطية الغامضة والتركيز عليها بصيغة أنّ القرامطة، فرقة من فرق الشيعة الإسماعيلية، قاموا بهدم الكعبة وسرقة الحجر الأسود «ليكون الطواف حول الإمام». على الرغم من أنّ الروايات في ما يتعلق بهذه السيرة وأسانيدها التاريخية هي روايات غامضة، إلّا أنّ الزجّ بها في كل مناسبة تتعلق بجدل حول الحجّ يعود لإجماع المؤرخين، وهم على وتيرة واحدة من الانتماء السلطوي، على أنّ المذاهب الباطنية هي صناعة فارسية ومرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمفهوم الفارسي للإسلام الذي يجعل من الإمام عقلاً كلياً وذاكرة كونية، بل إنّه حقيقة البيت والحرم وإنّ الطواف حول الكعبة هو طواف ظاهريّ، إنّما هو في حقيقته الباطنة طواف حول الإمام.
فمع الحسين بن علي سقط فعل الذبح وارتفع الذبيح منارة لكل قيَم الحق والخير والجمال. لكنّ مفهوماً كهذا لا يقتصر على فرق الشيعة، في بعض تراثها، فلقد نُقل عن شيخ المتصوفة حسين بن منصور الحلّاج بعد أن حجّ للبيت ثلاث مرات أنّه قال: «في المرة الأولى حججت فوجدت البيت وصاحب البيت، وفي المرة الثانية وجدت البيت ولم أجد صاحب البيت وفي المرة الثالثة وجدت نفسي». ولا يتوانى الإعلام المبرمج عن استغلال حديث منسوب إلى الإمام الرابع عند الاثني عشرية علي بن الحسين زين العابدين أنّه قال: «ما حججت إلّا أنا وناقتي ورجل من البصرة». علماً أنّ رجل البصرة تصدّق بحجّته على الفقراء ولم يصل مكّة أبداً.
لا تتخلّف الدعاية الإيرانية في المقابل عن نفي تهمة تتعلق بالموضوع وتصرّ على أنّ ما حصل لا يتعلق مطلقاً بتغيير وجهة الحج الذي هو ركن من أركان الإسلام ولا باستبدال الكعبة المشرّفة بضريح بكربلاء، بل إنّ الاختلاف لا يجب أن يتجاوز حقيقة الرؤية الإيرانية لموضوع الإشراف على الحج وتنظيمه، لكون الإدارة السعودية أثبتت المرة بعد الأخرى فشلها الفاضح، إضافة إلى أنّ النظام السعودي بالذات لا يصلح كمشرف على شعيرة بهذه القداسة. لكنّ شيئاً لا يمكن القفز فوقه، هو أنّ القرار الإيراني بمقاطعة حجّ هذا العام يشير إلى عمق الخلاف الإيديولوجي بين معسكرات المسلمين المتقابلة، وأنّ الأمر يبدو وكأنّه يخرج عن كونه خلافاً قد يحتويه إطار سياسي ليشمل الأسس التي قامت عليها المذاهب وتفاسيرها المختلفة للدين كدين.
هذا العام يبدو طرح الوحدة والصحوة أقرب ما يكون للاحتضار. فما النهج البديل؟
إنّ حراكاً داخل المذاهب الإسلامية يطاول الثوابت العقائدية أصبح أمراً مفروضاً، فالجمود في الممارسات وفي المعاملات لم تعد تفي بالمطلوب منها. فحجّ مكّة يكاد يتحول إلى هجرة سياحية موسمية، كما أنّ مشهد الأضاحي لا يبدو أكثر من مذبحة حيوانية كبيرة تجري على صخور بركانية سوداء، فضلاً عن رجم عمود يرمز إلى إبليس، بينما يبدو إبليس هو الواقع المأسوي بعينه. ثمّ لا شيء يتغيّر، ويعاود الجمهور الانتظار لجولة جديدة كلّ عام. فماذا تجدي كلّ المراسم السامية حين يقوم أحد بإفراغها من مضامينها وأسرارها الجميلة؟ وأخيراً، هل آن الأوان لكي يصبح الطواف حول العقل ضرورة، وهل يصبح العقل هو الإمام؟
* كاتب لبناني