ما تقدّم يُبيِّنُ أن الحركة الصهيونية بدل أن تُقدّمَ حلاً «للمسألة اليهودية» قامت بنقل المشكلة من محيط إلى آخر، متسببة بنشوء أطول وأعقد صراع في العصر الحديث.
كان نابليون من أوائل من فكّر بإنشاء كيان يهودي في فلسطين من أجل حماية مصالح فرنسا
بدأ الاهتمام بحق الشعوب في تقرير مصيرها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين من قِبَل الاشتراكيين في الغرب. وكان صدور كتاب لينين «حق الأمم في تقرير مصيرها» في عام 1914 محطة فارقة في تَبَنّي هذا الحق. وفي 8 كانون الثاني 1918 أعلن الرئيس الأميركي ولسن نقاطه الأربع عشرة التي شكلت محطة بارزة في السياسة الدولية وخاصة بالنسبة إلى حق الشعوب بتقرير مصيرها. وتكمن أهمية هذا الإعلان في أنه صدر في فترة كان مركز الثقل الرئيس في السياسة الدولية قد بدأ ينتقل من أوروبا إلى الولايات المتحدة. لكن قبل شهرين من إعلانه هذا، كان قد وافق على صدور تصريح بلفور على الرغم من أن إنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين» يتناقض مع البند 12 من الإعلان الذي ينصّ على أن «الشعوب الخاضعة للحكم العثماني يجب أن يضمن لها حياةً آمنة لا شك فيها والفرصة الكاملة دون أي تهديد للتطوّر الذاتي».
لم تتوقّف الرعاية الإمبريالية للمشروع الصهيوني عند هذا الحد، فقد أولت بريطانيا والولايات المتحدة، عند صياغة صك الانتداب على فلسطين في عصبة الأمم، اهتماماً خاصاً به، فوضعت في صلب مهام الانتداب تنفيذ تصريح بلفور. لذلك كان إنشاء «الوطن القومي لليهود» هو المحور الأساسي في مقدمة الصك وكذلك كانت بنوده التي أوصت بالتنسيق مع «الوكالة اليهودية» من دون التنسيق مع أية جهة عربية. كما أتى الصك على ذكر كلمة اليهود أو الصهيوني حوالى 15 مرة، بينما لم يأتِ على ذكر المسيحيين والمسلمين أو العرب بتاتاً مكتفياً بذكر المقامات الإسلامية مرة واحدة. وعند الإشارة للسكان العرب تم استخدام مصطلح غير اليهود أو مصطلح سكان فلسطين الذي يشمل اليهود أيضاً. يذكّرُنا هذا باتفاقيات أوسلو التي تأتي على ذكر مصطلح «الأراضي» من دون أي تعريف، فلا هي محتلة ولا فلسطينية وليس لها أي صفة أخرى. (كل ما يخص الفلسطيني نكرة وكل ما يخص الصهيوني مُعَرَّفٌ وواضح).
المعنى الوحيد لتنفيذ تصريح بلفور هو إحلال اليهود مكان العرب الفلسطينيين. فكان من الطبيعي نشوء الصراع العربي الصهيوني وأن يتخذ شكلاً عنيفاً لأن في الأمر إسقاطاً اعتباطياً لواقع على آخر. سرعان ما حدث التصادم فاندلعت اشتباكات في بداية العشرينيات مما دفع العديد من ذوي الخبرة من البريطانيين في فلسطين إلى الدعوة للتخلي عن «وعد» بلفور. فكتب س. برونتون: «إذا لم تُعدَّل السياسة، فإن اندلاع الاشتباكات اليوم سيصبح غداً ثورة». أما تشارلز آشبي، مستشار الانتداب، فقد كتب: «سياسة وعد بلفور سياسة غير عادلة. فلسطين هي قطعاً أرض قبائل. وفكرة أنها ملكٌ لشعب واحد، حتى لو كان هذا اليهودي، منافٍ للطبيعة والكتاب المقدّس» (هذه المقتطفات من كتاب جون جوديس بالإنجليزية «التكوين: ترومان، اليهود الأميركيون، وأسس الصراع العربي الإسرائيلي» ص. 81).
لم يُعِرْ المسؤولون في لندن اهتماماً لهذه الأصوات، فقد كان في أذهانهم مخطّطات أخرى تتجاوز مصالح الحق والعدل والأمن والسلام وتصب في خدمة المشاريع الإمبريالية ومن بينها المشروع الصهيوني. كما أنهم صمّوا آذانهم لنداءات العرب الفلسطينيين التي كانت تعبّر عن احتجاجهم لعدم وجود كلمة لديهم في الحكومة ولعدم تمثيل البرلمان الانتدابي لهم. وعندما ذهب الوفد العربي لتسليم تشرشل رسالة احتجاج بخصوص تصريح بلفور، عبّرَ تشرشل عن تأييده لما جاء به التصريح لأنه بحسب اعتقاده سيجلب الخير للجميع يهوداً وبريطانيين وكذلك للعرب. لم يقف الأمر عند هذا الحد إذ وبّخ تشرشل أعضاء الوفد لإنكارهم أن وعد بلفور يدعو لحماية حقوقهم الدينية والسياسية. «في الواقع نص وعد بلفور على حماية الحقوق المدنية والدينية وليس السياسية لغير اليهود من السكان» (المرجع السابق ص. 77).
بحسب جون جوديس «لقد تم تحطيم أية فرصة لإقامة دولة واحدة يتعايش فيها العرب واليهود بإصدار تصريح بلفور» (المرجع نفسه ص 126). أخيراً، إن حلاً يتنكّرُ لحق تقرير المصير أو لا يطبِّقه تطبيقاً صحيحاً لا يجلب سوى الحروب ولو بعد حين.
*كاتب فلسطيني