في الوقت الذي يُطبق فيه الحصار على مدينة الفلوجة، قرر تنظيم «الدولة» أن ينشر شريطاً جديداً يعرض «انجازه العسكري» الأبرز حتى الآن: قتل مئاتٍ من الشبان العزّل، أكثرهم كانوا يتدربون للخدمة في جهاز الشرطة، وقد فرّوا من معسكرهم بثيابهم المدنية حين اشتعلت المعارك، في ما صار يعرف بـ «مجزرة سبايكر».العبرة ليست في محتوى الشريط، ومغزاه بالنسبة الى «الدولة»، التي يظهر عناصرها وهم يتعاملون بسادية مع فتيانٍ جاؤوا من أفقر نواحي العراق وطبقاته، ويتلذّذون بتعذيب واذلال ضحاياهم وهم في لحظاتهم الأخيرة (والعنصر «المخيف» هنا هو ليس فعل القتل بحد ذاته، بل الخطاب الذي يحيط به ويبرره، ويحوّله من جريمة الى منهج).
بالنسبة الى «داعش»؛ الشريط قد يرضي غرائز جمهورها ويجاري أهواءهم و»طموحاتهم»، ولكنه يرمز ايضاً الى مصيرهم ومنتهى مسارهم: ماذا حصل للموقع الذي صوّرت فيه المشاهد؟ من يمسك تكريت اليوم؟ موقع المجزرة أضحى مزاراً للضحايا؛ وتكريت والعوجة، مسقط رأس صدام حسين، أمسكها «الحشد الشعبي» والتقط قاسم سليماني فيها صوراً تذكارية.
كما أنّ هذه المجزرة\»الانجاز» هي التي أفهمت العراقيين المعنى الحقيقي للمعركة، وعدم امكان تجنبها، وصارت صيحة حرب صنعت سيلاً من المقاتلين العراقيين، من كل المحافظات، ختمت منذ زمن (لكل من يعرف شيئاً عن الموازين العسكرية) مصير «داعش» في العراق.
الا أنّ العبرة الأهمّ لا تتعلّق بـ «داعش» نفسها، بل بردود فعل النخب «العربيّة» على المجزرة وشريطها، وعلى الايديولوجيا التي تقف خلفها. التجاهل الكامل والصمت المدوي، مقروناً بحملة بروباغاندا تناصر «داعش» في الفلوجة، وتجرّم العراقيين الذي قرروا حمل السلاح والدفاع عن بلدهم، هي كلّ ما يلزم حتى نعرف أيّ نوعٍ من البشر نتعامل معه، وأنّه لا امكان لتصوّر مجتمعٍ وطني من أي نوع مع هؤلاء («علمانييهم» قبل اسلامييهم).
المسألة هنا لا تتعلّق بالصفات الشخصية أو الأخلاقية للأفراد، وأكثر أنماط السياسة سذاجة وتضليلاً هو ذاك الذي يقسّم التيارات الى أناس «نظيفين» وآخرين «سيئين» بطبعهم وجبلتهم. هنا عملية تاريخية ومؤسسية نحصد نتائجها اليوم. حتى سنوات قليلة، كان «المثقف العربي» الذي يرتبط بالأنظمة «الايديولوجية»، سواء عراق صدّام أم سوريا الأسد، أو حتى ليبيا القذافي، يختزن الخطاب القومي العلماني الحداثي (بغض النظر عن عمقه وصدقيته) الذي قامت عليه هذه الأنظمة. ولكن «المثقف العربي»، الذي صار اليوم في عهدة الخليج، قد تحرّر من هذا الارث، حتى بالمعنى اللفظي، وهو له سوقٌ مختلف، وجمهورٌ مختلف، وممولون مختلفون، ولا بدّ من أن ينتهي الى شيء يشبههم: طائفي وكاره و ــــ في الوقت ذاته ــــ عميلٌ وأداة.
هذا ما رأيناه بوضوح في مواقف «القوميين العرب» السابقين في اليمن، الذين صار أغلبهم خدماً لدى الرياض، كما نراه في الثقافة السياسية التي تنبع من الخليج وتقيم علاقة «تخادم» مع «داعش» وجمهورها. شريط «سبايكر»، من هنا، كان مفيداً حتى نفهم أن هناك طبقة كاملة من «العرب» لم تعد تشاركنا أبسط مفاهيم العروبة أو المواطنة، أو حتى الانسانية بالتعريف البدائي لها، ولا امكانية أو معنى للكلام والتفاوض معها على هذا الأساس. كما انّه يذكّر آلاف الجنود، الذين يحيطون بالفلوجة اليوم، لماذا هم يقاتلون.
2 تعليق
التعليقات
-
في ذلكهي بالفعل فكرة بحجم فداحة الأحداث , هؤلاء الدُعّشْ المنفذين على أرض الواقع لا بد وأن لهم من عامل خفي يخفف وطأة ما يفعلون بل ومنهم من يجعل من مما يفعلون قاعدة أساسية ويبشر بالدولة الإسلامية ومنهم من يغالي فذود بالدفاع عنهم وتبرير هذا المآل بأنه أمر لا بد منه للعودة إلى الأصول .... هناك فقط فكرة تدور بذهني بأني اتفق بجزء واختلف بجزء آخر بأنها قد تكون من السذاجة من يقسّم التيارات الى أناس «نظيفين» وآخرين «سيئين» بطبعهم وجبلتهم .... أجل لا يوجد أناس نظيفين في جميع التيارات (مع بعض الاستثناءات) ... ولكن حتما الأناس السيئين والوسخين هم كذلك , هم قذرين أينما وضعتهم لن ينتقلوا إلى الضفةالأخرى مهما حصل .... جنبلاط , سمير جعجع , داعش , محمد مرسي , معظم رجالات المعارضة السورية .... قد تكون بعض الأنظمة أو معظمها غير نظيفة .... وأفرغت ثقافة مؤدلجة تعمل لمصلحتهم ولكن فيما بين من يرتهن ويروج لأفكار قومية وبين من يرتهن كما قلت لإعلام الصحراء .... شتّان فلتعش الأنظمة ... فلتعش روسيا... يعيش القمع القومي تسقط أمريكا ... تسقط السعودية ... يسقط الإرهاب الإبِلِي
-
اذا وصلوا إلى حد تبرئة ابناذا وصلوا إلى حد تبرئة ابن تيمية من كل جرائمه بزعمهم إنه يُقيّم اليوم خارج السياق التاريخي، و لكنهم لا يجدون أي سياق يبرر الحشد الشعبي العراقي و وصفه بالمذهبي. إذا كانت داعش و النصرة يتوعدون "الرافضي" و "النصيري" بالذبح حصراً و قد فعلوها في أماكن كثيرة في العراق و سوريا، فما عسى تكون الصبغة المذهبية للمقاتلين ضد مرتزقة ابن تيمية و من روائه ابن نتنياهو (كما أظهرت اسرائيلليكس)؟ أوسخ منظرين "الربيع العربي" هم العلمانيون منهم أو هكذا يدّعون، سفلة باعوا ضمائرهم من أجل ربع ساعة شهرة و حفنة دولارات، أي ساهمو في قتل و تشريد الملايين من أجل نزوات شخصية, و بعض آخر منهم ساهم في المحرقة ببلاش، حقد مذهبي دفين رغم العلمانية أو الليبرالية و الإنسانية الزائفة.