ــ ما زلنا نعتقد أن الحصار على قطر ليس أكثر من ردٍّ جميل متواضع من قبل الرئيس الأميركي ترامب لغزوته الشهيرة في الرياض السنة الفائتة، وتحصيله 460 مليار دولار. ولم يكن المطلوب منه في المقابل إلا شعارات جوفاء تجاه استعداء إيران، و«كارت بلانش» لمحاصرة قطر، وإزالة السعودية من القائمة السوداء للإرهاب وتجميد قانون «جاستا» لمحاسبتها.
لن تكون طريقة الأمير المغامر خلافاً لطرق أسلافه في اعتلاء العروش
ــ ما زلنا نعتقد أيضاً أن هذا السماح الأميركي في معاقبة قطر لدورها في زعزعة الاستقرار الإقليمي لجيرانها (وهذا صحيح في ما يخص محاولات قلب الحكم السعودي والتدخل في الشأن اليمني) ومحاولتها في نشر المشروع الإخواني في سياق الربيع العربي لن يتجاوز سقفاً محدداً يمكن معه ابتزاز كل الطرفين المتصارعين القطري والسعودي، على أن تتناوب المؤسسات الأميركية بالتصريحات المتعاكسة والمتناقضة لاستمرار الصراع وتشجيع أطرافه وحلْب كل بقرة على حدة لحين جفاف الضروع وحلول أوان الذبح العظيم.
وكما يبدو اليوم حكم الأمير السعودي الشاب محمد بن سلمان والمملكة الإيمانية القادمة بلا حماية وبلا شرعية إلا من أغطية المخرج الأميركي دونالد ترامب، بعد أن أجهز الأمير ابن سلمان ذاته على أهم قواعد الحكم السعودي التقليدية بضرب المؤسسة الدينية الوهابية (صنو الحكم لقرابة أكثر من قرن كامل)، وزعزعة مؤسسة العائلة الحاكمة وهدم الاستقرار الاقتصادي الداعم للحكم عبر اعتقال كبار التجار والأمراء، وبعد عقود طويلة كانت فيه السياسة السعودية معولاً رئيسياً وممولاً شبه وحيد لتمزيق الأمة العربية وإحباط محاولات نهضتها ووأد مشاريعها القومية. وبعد أن اشتركت بذبح العراق (مع بوش) ونحر سورية (مع بندر والحمدين وإردوغان) ورمي اليمن إلى الدمار والكوليرا وسلمت العرب والمسلمين للثقب الطائفي المذهبي الأسود الرهيب، فها هي مراكز الأنتلجنسيا السعودية والعقول (الفائقة التفكير) والبحث (الفائق الذكاء) في الجزيرة العربية تكتشف أن هناك مشروعاً لتقسيم وتفتيت المنطقة العربية للصهيوني (برنارد لويس): في عام 1983 وافق الكونغرس الأميركي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع الدكتور برنارد لويس، وبذلك قُنِّنَ هذا المشروع واعتُمد وأُدرِج في السياسات الخارجية الأميركية. صح النوم!
إن حالة المساكنة الطويلة بين الإخوان والوهابية، وبين إخوان قطر وتركيا ومصر والتنظيم العالمي وبين السعودية انتهى إلى غير رجعة، وتجاوز الخلاف بين المتخاصمين كل الخطوط الحمراء، وبدأ الغرْف من الفضائح العميقة بين الطرفين، ووصل لحد الفجور في المخاصمة والشتم والتعريض بالأعراض والاتهام بالعمالة للأميركيين والصهاينة، وكلهم في الهم والاتهام والعمالة شركاء (وربما في غرف مشتركة كما انفجر في وجوههم حمد بن جاسم في اعترافاته بشأن سوريا)، أصبحت حرب الإخوان تجاه بن زايد وبن سلمان ووالده تتسم بالفجور والاتهام بعظائم الأمور، والتسبب بالحرب على الإسلام وحصار المسلمين ومنعهم من مناسكهم وعلمنة البلاد والانقلاب على حكامهم الشرعيين وتأمين البدائل لهم، والحقيقة أن معظم ما تُتهم به الإمارات والسعودية من فضائح وتآمر وفبركات صحيح!
وتتهم الإمارات والسعودية قطر بأنها هي بوابة التآمر على الخليج عبر تركيا والإخوان وإيران. الطريف أن كلا الطرفين يتهم الآخر بالعمالة لإسرائيل، ومن المضحك أن تسمع إعلام قطر الغاطس في التطبيع مع دولة الكيان حتى أذنيه يتهم الإمارات والسعودية بالعمالة والتطبيع الذي بدأ بكشف بازارات إسرائيل مع «المحمدين». والحقيقة أن معظم ما تتهم به قطر من تآمر وتطبيع وخيانة صحيح!
إن مجرد متابعة هذه الحرب الدائرة بين الإخوان والوهابية وبين قطر والإخوان من جهة وبين السعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى سيكشف ما بقي من قطبات التآمر الخفية في مشروع تحطيم الدول العربية (سوريا والعراق وليبيا واليمن ومصر) ضمن سياق الربيع العربي النافق، لذا فالكل مدعو للمتابعة والمشاهدة ولمعرفة مزيد من حلقات النجاسة والتآمر والتخريب.
اليوم
لن تكون طريقة الأمير المغامر ابن سلمان خلافاً لطرق أسلافه في اعتلاء العروش، فكما مهّد فهد بمبادرته في فاس، وكما صاغ فريدمان لعبد الله مبادرته (العربية) للتطبيع مع الصهاينة، فإن ابن سلمان سيقدم أقوى العروض التطبيعية مع الكيان الصهيوني، وستكون صفقة القرن على وليمة ذبح فلسطين بحضور عبيد البلاط النفطي والسيد الأميركي.
ــ دويلة قطر تقف أيضاً عارية مكشوفة للتحولات والانهيارات القادمة إلا من بعض الدعامات الإقليمية التي تنظر إلى قطر وكأنها كاليتيم الفاحش الثراء الذي يحتاج لحضانة القُصَّر المهيضي الجناح.
ــ لعل ما قام ويقوم به ملك البحرين من تشجيع شعبه على التطبيع الفاضح مع دولة الكيان الصهيوني وما كشفته مقاطع الفيديو عن عتابه للإنكليز، والنوستالجيا العالية المفعمة بذكريات والده الذي أقرّ بأنه لا أحد في تاريخ البحرين طلب من الإنكليز الرحيل يدل على حجم التأزم وفقدان دواعم شرعية الحكم فيها، لتضطر إلى التعلق بنسج واهٍ من الصهيونية والاستعمار في زمن تموج مملكته الصغيرة في مهب أمواج التغيير الحتمي بقوة التاريخ وإرادة الشعوب.
ــ التطورات القادمة إلى دويلات الخليج العربي تنفتح آفاقها المضطربة على مجهول غامض من اجتماع نفط وغاز واشتعال الرغبات المكبوتة في شعوب البلدان المنتظرة لسيلانات التغيير وزحول الحدود وسقوط الشرعيات وتهلهلها وانكشاف وهنها واضطرارها إلى لعب أدوار العمالة والمشاريع المستوردة الخارجية وسياسات اختلاق الأعداء الوهميين للهروب من الواقع المأزوم.
- ستبقى لعبة «الرجل الطيب - الرجل القذر good guy & bad guy» تجري في الخليج كما في عهدها السابق بين وسيط طيب ومنفذ مطيع بوجه قبيح للمشاريع الأميركية. وقد تتقاسم الأدوار في السنوات القادمة بين المملكة والإمارات، وتتسابق الأنظمة بالتعري التام أمام أميركا حفاظاً على وهم ما بقي، على أنها وليأسها سترمي بعض الخيوط وبعض الصفقات في السلة الروسية خوفاً من يوم أسود وسقوط مؤكد عند تخلٍّ أميركي قادم لا محالة.
المؤكد والواضح الجليّ أن بعض دول الخليج أشعلت كامل محيطها بكرات ضخمة من نيران الأحقاد والحروب، وزودتها بكل نواتج النفط ومداخيله لزيادة أواره رغبةً منها في إرهاب شعوبها الخاصة من ركوب لعبة التغيير عبر الثورات من دون أن تدرك أن كرة الأحقاد والكراهية ونيران الحروب المشتعلة في كامل المحيط (العراق وسوريا وإيران وقطر واليمن) لا بد أن تصل أراضيها الخاصة، فتسقط كل ضمانات الأميركي الباقية بالحماية والحفاظ على الشرعية المفتقدة والأنظمة المأزومة.
* كاتب سوري